المثقّفون والأزمة
عبد الكريم النّاعم
أمر لافت كان توضّع المثقفين العرب في الأزمة التي تمرّ بها المنطقة، وسيبقى مجالاً واسعاً لكثير من المناقشات والمُداراسات، أثناءها، وحتى بعد انتهائها، لِما للثقافة مِن دور مطلوب ومُفترَض، على المستويات التّربويّة، والأخلاقيّة، والوظيفيّة، وهو مجال واسع، ومتشعّب، وفيه الكثير من الالتباسات، ويمكن أن نتوقّف، في هذا السّياق عند المفاصل التّالية:
1- حين نقول (أزمة) فلسنا نعني التقليل منها، بل نؤشّر ضمنا إلى كلّ الإشكالات الحقيقيّة، والموهومة، منذ مايُسمّى بعصر النّهضة حتى الآن، ونؤكّد على الدّور الذي لعبتْه الثقافة والمثقّفون، إنْ سلباً وإنْ إيجاباً، في مجالاتِ وأبعادِ ومًرتسمات النّواتج، والتي لايحمل مسؤوليّتها المثقّفون وحدهم، بل هم جزء نوعيّ فيها، بحكم إنتاجهم النّوعيّ، وبحكم أنّ الكثير من التفاصيل الموجودة في وجدان المشهد لايرسمها المؤرِّخ، لأنّها من صميم عمليّة الإبداع الفنّي، بأشكاله المتعدّدة.
بدأت (الأزمة) بتفقيس بيوضها منذ مايُسمّى بالنّهضة القوميّة، ولم يتوقّف ذلك التفقيس حتى في العهود التي بدتْ أنّها مبشِّرة، لالعجز في طبيعة الإبداع، بل لأنّ المناخ العام الذي تفتّحت فيه الإبداعات كان يشكو من فقدان الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهما عنصران مهمّان من أجل أيّ تفتّح ثقافيّ، أصيل في جذوره، وغير مفرِّط في وعيه وانتمائه، وحتى هذا (الانتماء) كان عبئا إضافيّاً في مساحة بعض من نسمّيهم تقدّميّين، وعلمانيّين، ولو كانت الأمور على صورة السطح التي واجهتْنا لما شهدنا هذه التّحوّلات المُفزعة، حين بدأ الزلزال، فوجدنا اليساري الملحد يقف على يمين التكفيريّ الرجعيّ. ولَما واجهتْنا مختلف المواقف ذات الألوان المتعدّدة، المُتداخِلة في المشهد العام.
نعم إنّها (أزمة) بدلالاتها العليا، لايخلو منها موقع من المواقع، وقولنا هذا ليس تثبيطا، ولا ساتراً للتلطّي، بل هو تقرير واقع، وتشخيص، وتحديدُ الداء بدايةُ التّعامل مع الدّواء.
2- إنّ أزمنة (السّلْم)، هذا على افتراض أنّه كان ثمّة (سلم)، منذ دخول الغرب غازياً ومحتلاّ، وإنشاء كيان العدوّ الصهيونيّ. هذه الأزمنة التي يقف فيها صوت المَدافع لاتعطي عمْق الصورة، لأنّها تتوهّم السلم، وبتوهّمه تتراخى بعض المفاصل، وتُجتَزأ الرؤية، وقد تُطرح مقولات، وأفكار، وصِيَغ، على أنّها هي الأساس، وفي ذلك تحويل خطير في التقييم، وهذا حال مَن يزعم أنّه آمن في بيته بينما هو مُحاط بالأعداء، من داخل ومن خارج.
3- في الحرب لايُقاتل الجميع، بل الميدان للمقاتلين الشجعان، والقادرين، وتتحوّل تشكيلات المجتمع إلى قوى مؤازرة فاعلة، كلّ في مكانه، بدءاً من الالتزام بالقانون وانتهاء بإنتاجه وتطبيقه وحمايته من العبث، والعبث هنا غالبا مايكون من أهل الداخل.
الحرب التي لايُشارك فيها الجميع يُفترض في الأزمات المصيريّة أن تكون الميدان النّوعيّ للمثقّف، بحكم طبيعة مايُنتجه، ولا يعفيه من ذلك إلاّ أن يكون عاجزاً عن النّطق والحركة، وآنئذ يلوذ الطيّبون منهم إلى ظلال: “فإنْ لم يكنْ … فبقلبه”.
4- واقع الحال، ثقافياً، يقول إنّ ثمّة مثقّفين على امتداد الساحة العربيّة، ويشاركهم في ذلك مثقّفون أحرار غير عرب، وقفوا منذ اللّحظات الأولى ضدّ هذه الهجمة البربريّة التي عصفتْ بالمنطقة، ولم يغيّر من إيمانهم ميزان الهبوط والصعود في الميدان، لأنّهم واثقون من أنّهم يقفون حيث يجب أن يكون المُحارب بالكلمة والرأي، ودليل ذلك تلك الوجوه التي تطالعنا في الإعلام الوطنيّ المُحارب، وتشمل رجالا من مختلف بقاع هذا الوطن الكبير، وهو التزام قد يتوجّب عليه أن يدفع البعض حياتهم، فهم في ذلك رديف حقيقيّ للمُحارب على الجبهة، كلّ في مكانه.
قد يردّ محتجّ بأنّ ثمّة مَن هم معدودون بين المثقّفين يملؤون الفضائيات الرّجعيّة، يتبنّون توجّهاتها، ويسوّقون لأفكارها، ويسوّغون أفعالها، ولا يمكن أن نقول عنهم إنّهم غير مثقّفين، وهو توصيف قائم، وهنا لابدّ من التمييز بين المثقّف الوطنيّ، الديمقراطي، المتحرِّر من أمراض الطائفيّة، والمذهبيّة، وسلبيّات الشوائب الإثنيّة المُفتَّتة، و.. الآخر الذي هو مجرّد بوق، أو مرتزق على أبواب الرجعيّة، وثمّة فارق جوهريّ بين هذا ومَن تحصّن بما يحفظ للوطن وحدته، وتحقيق أحلامه، ولقد عرف التاريخ أمثال هؤلاء الذين مالؤوا، أو باعوا، فكان تصنيفهم حيث ارتضوا لأنفسهم.
أولئك يمكن أن يُقال عنهم أنّهم (أوعية) ثقافيّة، متسوّلون ثقافيّون، لمثقّفون لأنّ جوهر الثقافة الحقّة التقدّم.
ثمّة مَن اختار الرّماديّة فصمت، وهؤلاء ساهموا في الإضعاف، وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مزيجاً من الأسود والأبيض، وأيّا كانت حججهم فإنّها لاتُخرجهم من الجمْع بين الأضداد، وأنّهم نتيجة جمعه، في وقت ينتمي فيه الرجال إلى الوطن بالدّماء.
الذين التحقوا بالصفّ الرّجعي، المتصهين، المُتأمْرك أكثر وضوحاً من الرماديين فأولئك أعلنوا اختيارهم، أمّا الصامتون فينتظرون انجلاء النّتائج، وفي هذا شيء من الانتهازية.
ربّما بدا للبعض، بدايةً، أنّ ثمّة التباساً ما، فما العذر الآن، وقد أفصحت المعركة عن أهدافها عربيّاً، وعلى مستوى العالم؟!.
جرأة المراجعة، والعودة عن الخطأ، لايملكها إلا الشجعان الأنقياء.
aaalnaem@gmail.com