ثقافة

لون الفجر

“أنجليك” الملائكية و”جوايوز” الفرحة، أختان تعيشان مع والدتهما في بور – أو    برانس, تلك المدينة المتداعية التي تزرع في قلوب ساكنيها بذوراً سامة تنمو مع البؤس والفوضى وإنهاك الديكتاتوريات. هنا تحاولان شق طريق معيشتهما وفق أسلوبين مختلفين، يتجاوبان ربما مع اسميهما فأنجليك ممرضة, حملت بـ (غبريال) الصغير بعد غرام لحظة, وفقدت ابتسامتها والتفتت إلى الدين, مقفلة قلبها وجسدها, وكلاهما يتضوران جوعاً. أما “جوايوز” فقد اختارت السير في الحياة إلى جانب الشمس بجرأة وتكبر ومخاطرة, كي لا تقع في معسكر المهزومين. وقد حوّلت جسدها إلى سلاح، وقلبها إلى حجر مستهزئة من الموت والبؤس المحيطين بها.
هاتان المرأتان المختلفتان ترويان معاً قصة يانيك لاهانس الجدية, صوتان يختلطان كي يخطا كل بدوره, سبيلان نحو التمرد نفسه, فهاهما تشهدان بلادهما منحدر والفقر يسن أسنانه والخيانات تزدهر “هنا لكل ابتسامة مكانتها, ولكل كلمة وزنها, حروب صامتة نشّنها في هذا الحي, حروب بلا انتصارات, بلا نهابات ولا أمجاد”.
شقيقتان ينتابهما القلق نفسه منذ أن خرج فينيوليه, “الشقيق الشمس والرعد”, الأخ المتمرد, ولم يعد, يقوم السرد كله حول هذا الغياب, في يوم يطلع ولا نعرف ماذا يحمل معه, يوم معلّق بالانتظار, تتوالى ساعاته كألوان الفجر وصولاً إلى حمرة الدم”.
في زمنها, كانت الروائية ماري فيو-شوفيه (المولودة عام 1916 في بور-أو برانس) قد قدّمت مع كتاب (حب وغضب وجنون) (غاليمار, باريس 1968) وصفاً لجزيرتها وبرجوازيتها المتخبطة والضغائن الصغيرة. نجد هنا نوعاً من البنوّة بين العملين, خصوصاً من خلال شخصية أنجليك التي وبالرغم من انتمائها إلى بيئة أخرى تماماً, تذكرنا بكلير, رواية “حب وغضب وجنون”، نجد وصفاً قاسياً لجزيرة يتعرّى بأسها ومعاناتها كجرح تم قشطه حتى سال منه الدم, وجزيرة تحت سلطة “رئيس– نهي”, ومدينة يحمل “أطفالها الموت على رؤوسهم أصابعهم”.
نظرة قاسية تنقذها كتابة جميلة حتى قطع النفس, مسنّنة كالسكين القاطع بجملها الصغيرة المروّسة ولامعة ببرودة  النصول: كتابة كفجر في شهر شباط الذي تنفتح الرواية عليه (يجمد الدم في عروقك).
هكذا, و بالرغم من سوداوية الوصف, لا يمكننا إلا أن نجد في الكتابة وفي معركة الأخ والأختين أملاً أخيراً بالرغم من كل شيء (أنا أنظر من النافذة إلى زرقة السماء النقي, زرقة الجنة الكاذبة، لكن هذا الزراق جميل.. جميل جداً. أود لو إن الشمس في داخلي نقية مثل هذه الزرقة).
انه وعي للعالم, بلد وكتابة تذكران بحسب كلمات رينيه شار بأن (صفاء الرؤية هو الجرح الأقرب من الشمس).

إبراهيم أحمد