ثقافة

الغناء الخالد الجمال..”يارا” مثالاً

“إن أردتَ إهداء أحدهم ألبومين لفيروز، فليكن أحدهما ألبوم”إلى عاصي”، وإن أردت إهداء ألبوما واحدا فليكن “إلى عاصي”. هذا ما يقال عموما للذين يريدون أن يقوموا بإهداء ألبوم تغنيه”أم زياد” إلى أحدهم، خصوصا الأحبة والعشاق، فهو –أي الألبوم-فيه كل روح “الرحابنة” الكبار، وروح جوهرتهم التي تغنيهم.
ربما يكون الحديث عن النصيحة بإهداء ألبوم غنائي “فيروزي”محصورا في ألبوم “إلى عاصي” فيه شيء من المبالغة العاطفية والفنية أيضا، لكنه يستحق هذه المبالغة أو الحديث الأكثر من واقعي عنه لأسباب عديدة، حيث يعتبر وحسب العديد من النقاد وأهل الفن والجمهور، واحدا من أروع وأجمل وأهم ما غنته “صاحبة التنورة النيلية” في تاريخها الفني المليء بالرقي والعظمة، وحتى يومنا هذا يبقى لكل عشاق “فيروز” وهم غالبية عظمى، يبقى لهذا الألبوم في قلوبهم مكانة خاصة، فالألبوم المذكور، يستحضر ذكرى ذاك المبدع الراحل “عاصي”، في أغانيه نفسها ولكن بتوزيع لحني جديد، كما أنه وعدا عن كون أغانيه تثير الشجن، يؤكد أن قيمة الوفاء للحبيب موجودة فعلا وليست حكرا على القصص والحكايات!، حتى أن صوت “فيروز” فيه يبدو وكأنه قادم من عوالم قصية على الخيال، عوالم شجية ومسحورة بالإحساس العالي الذي صدر من كل كلمة أو نغمة فيه.
“إلى عاصي” الألبوم الذي صدر عام 1995 كتكريمٍ من “فيروز” و”زياد” لـ “عاصي الرحباني”1923-1986-بعد تسع سنوات على غيابه، ضم 18 أغنية مختلفة، أعاد “زياد الرحباني”-1956- توزيعها بطريقته على مدى سنوات غياب أبيه، ليُصبح “إلى عاصي” الألبوم الأكثر مبيعا في تاريخ لبنان وسورية أيضا،ومما يلفت الانتباه هو اختيار “زياد” في الألبوم المعاد العمل على الجملة اللحنية فيه والأداء الصوتي المميز دائما لسفيرتنا إلى النجوم، أغنية “يارا” التي لا بد أنه وقع تحت سطوة وسحر كلماتها ولحنها، حتى يضعها في الألبوم المهدى إلى روح والده في ذكرى رحيله التاسعة، من بين بقية الأغاني الكثيرة، التي هي من حيث المضمون، أقرب إلى روح الألبوم وطبيعته، خصوصا وأن “يارا” كقصيدة، تبدو وكأنها قطعة من الزمان، بعيدة عن أجواء إحياء ذكرى الراحلين الذين نحب، إن كان بموضوعها ومفرداتها وصورها الشعرية، أو في منطقها الشعري نفسه.
“يارا” كأغنية تشكل مثالا ناصع الوضوح، عن مقومات الفن العظيم والخالد، فلطالما كان الغناء الذي يحكي “أدونيس” أنه مقود الشعر، هو الحالة الأكثر تحببا للإنسان أن يدور في فلكها حسب حالته النفسية وثقافته، إن كان حزينا فله ما يشتهي الحزن ومايطيب له كشعور من الأغاني الأصيلة المواسية، وإن كان فرحا، فله ما لذ وطاب أيضا من الأغاني التي تعزز الفرح، بل تجعله أكبر مما هو، عدا عن كون الغناء يعبر عن مزاج شعب بأكمله، النشيد الوطني مثلا- أما كيف شكلت “يارا” هذا المثال الناصع عن الأغنية الخالدة، فهذا ليس وليد “جلسة” تُكتب فيها عشرات الأغاني التافهة كما يحدث الآن، بل إن سنوات طوال، وعمالقة كبار، جعلوها هكذا، خالدة في الضمير الوجداني الجمعي العربي.
عام 1963أصدر الشاعر اللبناني الكبير “سعيد عقل”1212-2014،مجموعةً شعريةً بعنوان “يارا”ليكون مبتدع أو مخترع اسم “يارا”، الذي لم يكن موجودا سابقا، وما الحديث عن كونه مشتقاً من “أيار” اللفظ السرياني الذي سمي به شهر الربيع، ما هذا الحديث إلا حديثا بلا أي قيمة مؤكدة، لا لغوياً ولا فنيا،-أيضا “رندلى” من الأسماء التي ابتدعها عقل-ولشدة جمال القصيدة، انتشر الاسم بعدها عند الناطقين بالعربية وكأنه من الأسماء العربية التي يسمون بناتهم بها “ليلى-سلمى- يارا..الخ”، وضمت تلك المجموعة الشعرية المذهلة والقائمة على البلاغة في الإيجاز والاختراعات اللغوية الخاصة بالشاعر -كلمة “الحلواية” مثلا-، أشعارا عديدة، اختار منها الأخوين”رحباني” قصائد كي تغنّيها فيروز مثل “مرجوحة” و”بحبك؟ما بعرف” و”يارا”.
ما ميز هذه المجموعة الشعرية، لشاعر فذ يمتلك أدواته اللغوية الشعرية في المحكية والفصحى لدرجة أذهلت القارئ لشعره في اللغتين –المحكية لغة ثانية غير الفصحى أنها جاءت -أي المجموعة الشعرية”يارا”-أشبه بقصصٍ قصيرة للأطفال يرويها “سعيد عقل” بلُغةٍ شعرية مفعمة بالصور. فببضع كلمات، وصف لنا “يارا” والزمان والمكان، وعرّفنا على عالم تلك الطفلة ذات الاسم الغريب، كما عرّفنا على أخيها الصغير. بكلمات قليلة، بنى عالما وخط تاريخا كبيرا، كما أنه رسم عوالم أشبه بعوالم “تولكين ومارتن”، فـ “يارا” الحلوِة الحِلواية، بعد أن تعبت وشحب وجهها “نتفة” من حمل أخيها بعد أن وضعته في سريره، صارت تصلي لربّها كي “يصيّرو كبير”، وهنا ما يلفت دقة الانتباه حيال النتاج الشعري العظيم له، حيث عرف “عقل” كيف يطوع اللغة ويضع مفرداتها المناسبة في المكان المناسب، لتبدو القصيدة وكأنها عن الأطفال، رغم أنها للجميع (يارا الجدايلها شقر، الفيهن بيتمرجح عمر)، كلام قد يكون لصبية في العشرين من العمر، كما يمكن أن يكون لطفلة في العاشرة، وهذا الذكاء العبقري في نتاجه الشعري جعلت الأخوين “رحباني” يبدعان في العمل على وضع لحن من روح الأغنية،لحن “يتروحن” فيه الكلام المكتوب، في ذلك المقطع أو الحالة المكتملة لذاك الوصف البارع، وهذا ما كان، عندما قاما بوضع لحنٍ مشبع بالتشويق، فمع كل جملة لحنية أو علامة موسيقية، ينتظر المستمع لمعرفة المزيد عن “يارا” وقصتها التي بدأت بسحر لغوي شعري، يفوق الوصف، ثم أكملها لحن رفيع الذوق، جعلها تدخل كل بيت وروح، وهذا ما يحدث للأغنية الناجحة أكثر منه للقصيدة، عندما تتضافر كل من الكلمة مع العلامة الموسيقية المناسبة في النوتة المناسبة، لتصبح هذه الأغنية، واحدة من أشهر وأجمل ما غنت السيدة “فيروز” وهي رغم البساطة التي تتسم بها في اللحن والكلمة، إلا أن هذه البساطة هي المقصود الوصول إليها، وهذا ليس سهلا كما يعتقد كثر من مزاولي الشعر وكأنه حاجة “بريستيجية” بحتة.

تمّام علي بركات