ثقافة

“باتوالا” مسارات السرد التقليدي تفتح معالم بلاد الباندا

حظيت رواية” باتوالا” بالشهرة لأنها أول رواية كُتبت عن الزنوجة، ولأنها نالت جائزة غونكور لعام 1921وأُجبر كاتبها رينيه ماران- من أبوين زنجيين فرنسيين- على تقديم استقالته من عمله الإداري في مستعمرات أوبانغي إثر كتاباته المستمدة من تجربته الإفريقية عن السلطة الاستعمارية التي فرضت الظلم والهيمنة والقسوة على رفاقه الزنوج، وفي ترجمتها إلى العربية التي صدرت مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، امتلك سنان سليمان موسى قدرة على الترجمة المنسوجة بإحكام والبعيدة عن التفكك والماضية ضمن مسار واحد، تميّزت بدقة الوصف والتعبير عن روح الرواية ومشاعر أبطالها، كما تضمنت مقتطفات من الشعر المحكي المرتبط بمناسبات معينة وبالفصول، كالأغنية التي رافقت موت والد باتوالا”.

ورغم أن الروائي “ماران” انطلق من توصيف الجغرافيا المكانية بكل ما تحمله من تفاصيل، وتطرق إلى خصوصية التقاليد والعادات المتبعة، وكذلك العناصر المكونة لبيئتهم وإيمانهم بتأثيرها مثل النار والمطر والنجوم والسحر والتعويذات، وأصوات آلة الملافيون وإيقاع الطبول التي تعدّ إيقاع الحياة الذي يسيّر الإفريقيين سكان تلك البلاد  إلا أنه مرر من خلال الأحداث ما يفعله الاستعمار بسكان البلاد الأصلاء، ومضت الرواية بمسار السرد التقليدي بصوت السارد الذي يمزج بين ضمير المتكلم والغائب، وبتتابع متسلسل للأحداث الرتيبة التي تخللتها إطالة للمشاهد التوصيفية المكانية من زوايا أخرى، وابتعد الروائي عن خاصية الاستباق والاسترجاع أوالتماهي بين الخيال والواقع، لتنم الأحداث عن قصة حبّ تكون منعطفاً وتأخذ أبعاد الغيرة والمراقبة والانتقام.

الشخصية الرئيسية في الرواية هي شخصية الزعيم باتوالا والمفاجأة التي تركها الروائي للقارئ هي نهايته المأساوية المؤثرة والبعيدة عن مسيرة حياة زعيم قوي اشتُهر بقوته الأسطورية، وبمهارته كصياد وبانتصاراته التي وصلت إلى القرى البعيدة، أمضى حياته بين الأدغال والحيوانات المفترسة، ليضعنا الروائي منذ الصفحات الأولى مع أهمية النار ليدخل بأعماق الكوخ المستدير الذي يقيم فيه القائد باتوالا ويفكر بالمستعمرين البيض، تشاركه الكوخ زوجته الشابة الجميلة ياسيغيندجا المفضلة لديه بين زوجاته الثماني، والتي اعتادت على الألفة بينها وبينه، والكلب دجوما الذي يستمر دوره ويتعاظم في نهاية الرواية ليبقى الرفيق الوحيد المرافق باتوالا لحظات موته المأساوية.

الغانزاس

الحدث الأهم في الرواية هو حفل “الغانزاس” الذي تجري فيه طقوس ختان الصبية الصغار والفتيات في طقوس سرية، وتبقى السمة المميزة للرواية هي لجوء الروائي إلى خاصية التوصيف الجغرافي لتأخذ مساحات بين ثنايا الرواية” ومن طيور الوقواق الإفريقية إلى الغربان كانت طيور الحجل مجتمعة على أغصان الشجر المنخفضة، وكانت تشدو بأغان ترحيبية”، ولتكون في مواضع شريكاً حقيقياً لأفكار باتوالا وفترات صمته، لكن الروائي وظّفها أيضاً لبيان معالم البيئة الجغرافية الخطرة فأشار إلى الثعابين التي تشكّل جسوراً بين الأشجار، ويشهد نهر البامبا الكثير من الأحداث العابرة والأساسية التي غيّرت مسار الرواية وكذلك النمر مورو.

واللافت أن الروائي تناول هيمنة البيض وقسوتهم وظلمهم بالتدرج مع الأحداث فبدأ بمفارقة البرغوث الذي يختار جسد الزنجي مسكناً له بينما لاتجرؤ برغوثة واحدة على لمس أجساد البيض، ليتابع فرض الضرائب على السود وتشغيلهم بحمل الصناديق مسافات طويلة، لتظهر شخصية الضابط الأبيض المخيفة “موروكامبا”، لينتقل المسار السردي إلى التحضيرات للاحتفال واستفاضة السارد عن رقصات اليانغا.

المرأة في الباندا

ومن خلال المتن الحكائي تطرق الروائي إلى العادات التي تخصّ المرأة بتخصيص كوخ خاص لها بالإضافة إلى بيتها الزوجي، والعادات المترافقة مع حملها وولادتها والغريب هو انفصال زوجها عنها مرحلة الأمومة والزواج بغيرها، المنعطف الأساسي في الرواية هو شخصية الشاب بيسبينغي الذي تقع بحبّه ياستغيندجا وتعيش الصراع الدرامي الداخلي بين لقائه، والخوف من ردة فعل باتوالا الذي سيقتلها، ليتوقف الروائي عند الحادثة التي زرعت الشك بقلب باتوالا وقرر إثرها قتل بيسبيغي هي مهاجمة النمر ياستيغيدجا وهي على مقربة من كوخ بيسبيغي، لتجد نفسها فجأة في مواجهة زوجها الذي أنقذها مع حبيبها من النمر متظاهرة بأن هذه الحادثة حدثت بالمصادفة، ليتأكد باتوالا من شكّه فيما بعد.

ويأخذ السرد صفة التشدد أثناء حفل طقوس الختان “غانزا غانزا” القائم على طقوس الرقص، ليتحدث الروائي عن استغلال التجار البيض للزنوج ومنحهم جزءاً قليلاً من النقود، والتوقف عند شراء المطاط وتخفيض سعره وفرض ضريبة جديدة، وضرب البيض السود واستغلالهم جسدياً، لينهي الروائي الاحتفال بوصف نهر نيوبانغي النهر الأعظم الأب لكل الأنهار، ويفرد الصفحات الأخيرة للقاء ياستيغيدجا بحبيبها الذي ينتهي بحادثة مفجعة، وبسؤال من سيقتل الآخر باتوالا أم بيسبينغي إلا أن القدر يتحكم ويقف على جانب الحبيبين، ففي اللحظة التي يهمّ باتوالا برمي الرمح القصير على بيسبيغي لقتله، يفاجئه النمر ويفتح بطنه ليئن من ألم النزف.

الصمت النهائي

والأمر المحزن أنه يحمل على نقالة إلى كوخه ويبتعد عنه كل الناس الذين تقاسم معهم الحياة بكل مساراتها وصراعاتها، ليرى من خلال النار زوجته التي يفضلها ياسينغيدجا وهي تعانق حبيبها غير آبهة بحشرجة موته، ليبقى كلبه على مقربة منه في حين تقترب النهاية ويستسلم ديجوما للنوم.” شيئاً فشيئاً هدأ الضجيج وخلدت الحيوانات للنوم ولم يعد غير الصمت يراقبك يا باتوالا، ولا توجد غير الوحدة والليل الطويل معك يا باتوالا، فارقد”.

ملده شويكاني