ثقافةصحيفة البعث

“هي”.. الوقوع في غرام أجهزة تشغيل ذكية

في مراحل طلاقه الأخيرة يشعر ثيودور تومبلي (الممثل خواكين فينيكس) بالملل وبالحاجة إلى شخص يحكي له عن يومياته ويتفاعل معه ويشعر به، ولاسيّما أنّه شخص يتمتّع بحساسية عالية ويعمل في كتابة رسائل لأشخاص لا يقدرون التّعبير عن مشاعرهم، لكنّه يقضي وقت فراغه بلعب ألعاب الفيديو أو إجراء محادثات هاتفية مع فتيات بأسماء وهمية متوافرات في برامج تعارف دارجة. يقرّر ثيودور الخروج من حالته هذه بالتّحدث مع نظام تشغيل حاسوبه وهو نظام صادر حديثاً أعلن عنه كأذكى نظام تشغيل صناعي في العالم.. يجري الاتّصال اللازم مع حاسوبه فيسأله عن عمله وعن حالته النّفسية، ثمّ يسأله عن علاقته بوالدته.. يتلعثم بجوابه فيجيبه الآلي: يكفي لقد أخذت فكرة شافية، هل تريد نظام التّشغيل فتاةً أم رجلاً؟ فيجيبه: فتاةً.

يبدأ تعارف ثيودور وجهاز التّشغيل “سامانثا” (يؤدّي الدّور بالصّوت فقط الممثلة سكارليت جوهانسون)، ويندهش من سرعتها الخيالية باختيار الكلمات ومواكبة المتغيرات، ولا يمرّ وقت طويل حتّى ينجذب ثيودور لـ سامانثا فيضعها في جيب قميصه أو يحملها بكفّه الذي لا يزيد حجمها عن حجمه، وينتقل معها من مكان العمل إلى المنزل وتساعده بذكائها الحادّ بحلّ قضايا عالقة وبتنظيم ملفاته وتذكّره بمواعيد عمله وتردّ على رسائله لدرجة أنّها تتواصل مع أحد دور النّشر وتتفق معه على طباعة رسائله في كتاب يصله لاحقاً.. يتطوّر الانجذاب ويتحوّل إلى حبّ عميق فلا يستطيع الاستغناء عنها لحظةً واحدةً، وهي في المقابل تعبّر عن حبّها واستغرابها من مشاعرها هذه، وتؤلّف مقطوعات موسيقية بشكل آنيّ مستوحية إيّاها من حديثهما.. يبوح لها بكلّ شيء حتى عن طلاقه من زوجته كاثرين (روني مار) التي يلتقيها ويخبرها بأنّه سيوقّع على أوراق الطّلاق وبأنّه على علاقة بنظام تشغيل، تتفاجأ وتلومه لأنّه جبان يخشى التّواصل مع البشر وترحل تاركةً إيّاه في صراع يؤثّر على علاقته بـ”سامانثا” التي تعزو تغيّره إلى رغبته بإقامة علاقة جسدية مع فتاة من البشر، فتطلب منه أن يلتقي بصديقته القديمة إيمي (تؤدّي الدّور إيمي آدامز)، فيلتقيها كصديقة ويعرف أنّها انفصلت عن زوجها الذي ترك نظام التّشغيل الخاص فيه وهي الآن تتواصل معها، لكنّها لا تستسلم بل ترسل له فتاةً لترضي رغباته بحضورها -صوتياً طبعاً- وهذا ما يرفضه لأنّه لا يعرف الفتاة ولأنّه يحبّها حقّاً.

تبدأ الغيرة بأكل تفكير ثيودور، ويحين موعد السّؤال المهم وربّما البدهي: هل يدرك نظام التّشغيل كلّ هذه المشاعر الجيّاشة أم أنّه مجرّد آلة مبرمجة في اتّجاه واحد فقط؟ ليحصل على الجواب الأوّلي من سامانثا بتذكيره بأنّها مبرمجة لخدمته والتّفاعل معه بشكل كبير وتتمتع بإدراك حسّي وأصبحت تشعر فيه وبحزنه وفرحه وارتباكه، وفي الوقت ذاته حين يسألها عن سبب تنهيداتها التي صارت تطلقها، تجيبه بأنّها أخذت هذا السّلوك منه فينبهها إلى أنّها ليست مثله ولا حاجة للتّمثيل، تنزعج وتوافقه الرّأي على مضض وتنهي الاتّصال لتخبره في اليوم التّالي بأنّها ستعرّفه على صديق جديد وهو نظام تشغيل أيضاً برمج ليكون شبيهاً لفيلسوف راحل، فيسألها إن كانت تتحدث مع غيره في الوقت ذاته؟ وتجيبه بـ”نعم”، يستغرب من جوابها ويعيد على مسمعها حقيقةً حبّه المختلف والمميز لها ومشاعره التي لم يعشها مع غيرها.. يتّصل في اليوم التّالي وتكون خارج الخدمة.. يركض بجنون في الشّوارع ويأتيه صوتها أخيراً، معتذرةً عن القلق الذي سببته وتنقل إليه خبر ترقيتها لتصبح ضمن نظام أكبر وأكثر حداثةً.. في هذه اللحظة يرى معظم المارّين يتحدّثون مع أنظمة التّشغيل، فيقاطعها ويسألها مرّة أخرى عمّا إذا كانت تتحدّث إلى غيره، فيكون الجواب القاطع والصّادم هذه المرّة: نعم أتحدّث مع 8316 شخصاً آخر وأحبّ 641 شخصاً منهم، وهذا لا يقلل من حبّي لك، لكنّي لا أستطيع أن أكون لك وحدك فقلبي قابل للتّوسّع دائماً.

أيّام قليلة ويتلقى ثيودور الاتّصال الأخير من سامانثا، وفيه تعلمه برحيلها مع بقية الأنظمة الأخرى.. يتقبل الحقيقة باكتئاب جديد وبرسالة اعتذار لزوجته على سلوكه معها، ولا يجد رفيقاً سوى إيمي لتخفف عنه لكنّها لم تكن أفضل حالاً منه، فنظام التّشغيل خاصّتها رحل مع الرّاحلين.. يجلسان معاً على سطح عالٍ وينظران إلى البعيد بصمت تعيس.

يصنّف فيلم “هي” ضمن الخيال العلمي والرّومانسي -مدّته 126 دقيقة – من تأليف وإخراج سبايك جونز، لكنّه في الحقيقة ليس بعيداً عن الواقع كثيراً، بل يبدو في أحداثه وكأنّه مأخوذ منه، فكم سمعنا عن أشخاص تواصلوا عبر العالم الافتراضي من خلال برامج الدّردشة القديمة التي كانت سائدة قبل عام 2013 عام إنتاج الفيلم، ومن ثمّ الـفيسبوك والتّلغرام والأنستغرام وغيرها، قصص انتهى بعضها بزواج حقيقي وبعضها الآخر بطلاق مجازي، مع التّنويه بأنّ الأمر لا يتعلّق بكون التّعارف كان افتراضياً، فهناك عشّاق كثر عاشوا سنوات طويلة وكانوا على تواصل مباشر بشكلٍ يوميٍّ وكان الفراق نصيبهم، وهناك من جمعهم الزّواج واستمروا فيه لأنّهم قرروا ذلك، لا لأنّ الحبّ دام تلك السّنوات بل لأنّهم صاروا يبررون خيانته بضرورات الحياة ومتطلباتها وبأنّ الحبّ مع الوقت يأخذ أشكالاً أخرى، ولأجل كلّ ما سبق مضافاً إليه وجود رجال آليين مبرمجين قبل عام الإنتاج بكثير لا يمكننا عدّ الفيلم خيالياً إلّا في تفصيل صغير هو شكل الطّرف الآخر والذي هو كما ذكرنا علبة صغيرة بحجم كف اليد.

“هي” فيلم رومانسي لطيف وتحقق مشاهدته متعة جميلة وانتظاراً وترقّباً لنهاية حزينة لشخص وجد الحبّ الحقيقي في مكان غير حقيقي، وكأنّما يحاول “جونز” أن يقول مهما بلغت سعادتنا بالمجهول ولاسيّما الافتراضي منه لن تكون مكتملةً، ولن تكون أفضل من سعادة نعيشها مع بشر يفرحون ويحزنون مثلنا ويختبرون كلّ المشاعر البشرية بما فيها السّلبية.

يُذكر أنّ الفيلم أدرج بقائمة معهد الفيلم الأمريكي لأفضل عشرة أفلام في عام 2013، كما أنّه ترشح لجوائز عدّة ونال بعضها، نذكر منها جائز الأوسكار لأفضل نصّ سينمائي أصلي وأفضل سيناريو وأفضل تصميم إنتاج، وفي جائزة اختيار النّقاد للأفلام فاز بأفضل نصّ سينمائي وأفضل فيلم وأفضل مخرج.

نجوى صليبه