عباس كياروستامي.. سينما بطعم الكرز
حين نعى المخرج الإيراني الشهير محسن مخمالباف منذ أيام قليلة المخرج عباس كياروستامي زعيم مخرجي الموجة الجديدة في السينما الإيرانية قال: “إنه وراء الشهرة التي حققتها السينما الإيرانية، وأن نجاح أفلامه ألهم أجيالاً جديدة من المخرجين الإيرانيين ومهَّد السبيل أمام الآخرين، وأثَّر في كثيرين.. إن وفاته خسارة ليس لعالم السينما فحسب، بل للعالم كله”.. من هنا رأت مجلة “منصة الفيلم” الأميركية على موقع تويتر أن وفاة كياروستامي معناها أن العالم فقد أعظم السينمائيين قاطبة.
تحفة فنية
رحل كياروستامي تاركاً تأثيره ليس على السينما الإيرانية فحسب بل وعلى السينما العالمية، وهذا ما جعل المخرج الفرنسي الكبير جون لوك جودار يقول: “إن السينما تبدأ بديفيد وارك دريفث وتنتهي بكياروستامي” في حين رأى المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي أنه يمثل أعلى مستوى من البراعة الفنية في السينما، لذلك لم يكن من المستغرب أن يقارنه كثيرون بمخرجين عالميين كبار أمثال الإيطالي فيتوريو دي سيكا وايرك رومر المخرج الفرنسي وساتياجيت وغيرهم ليُعد ودون منازع من كبار مخرجي السينما المعاصرة، وقد سطع نجمه على الساحة الدولية مع فيلم “أين منزل صديقي؟” عام (1987) وعُرِضت أفلام عدة له في مهرجان كان من بينها خمسة أفلام رُشِّحت رسمياً للفوز بالجائزة الأولى للمهرجان هي: “عبر أشجار الزيتون” (1994) و”عشرة” (2002) و”نسخة طبق الأصل” (2010) و”كشخص واقع في الغرام” (2012) و”طعم الكرز” الذي نال السعفة الذهبية في مهرجان كان سنة 1997 وبفضل هذا الفيلم استطاع أن يضع الفيلم الإيراني علي خريطة السينما العالمية، وقد وصِف الفيلم بأنه تحفة فنية يتحدث عن فكرة الموت والرغبة في الانتحار، متتبعاً كياروستامي رجلاً يقود سيارته حتى حفرة ينوي الانتحار فيها.. لتدور معظم أحداث الفيلم داخل السيارة التي يقل بها في الطريق إلى الحفرة أشخاصاً يعرض عليهم المال مقابل مساعدته في الانتحار، وهو سيلقي نفسه بالسيارة في حفرة، لكنه يخشى ألا يموت.. مهمة الشخص تتلخص في أن ينادي عليه بعد أن تسقط السيارة، فإن كان حيًّا سيخرجه من الحفرة، وإن كان ميتاً سيردم عليه التراب.. ومن خلال الفيلم يتتبع كياروستامي آراء الركاب حول الحياة والموت، ومحاولاتهم بإقناعه بالعدول عن قراره، ولا يتردد الرجل أمام النصائح الكثيرة، لكنه يتأثر حين يخبره رجل أن الموتى لا يستطيعون أكل الكرز: “ألن تفتقد طعم الكرز”؟ ولا يخبرنا كياروستامي إن كان الرجل قد انتحر أم لا، فهو فقط يثير الأسئلة كعادته.
الواقع أهم من السينما
“إن الزهرة حين تنمو في أرض بعينها فإنها تتشرب بروح تلك الأرض، فإذا انتُزعتْ ووُضعتْ في مكان آخر فإنها قد تستطيع أن تنمو، لكن لن يكون لها أبداً نفس العطر”.. بهذه الكلمات رد كياروستامي على من كان يسأله عن سر بقائه في إيران، فكان ما يميز فنه أن جذوره ظلت غارقة في المحلية التي ارتقى بها سينمائياً إلى العالمية، ويُجمِع النقاد والسينمائيون على أنه كان أكثر المخرجين الذين ربطوا الحياة بالسينما، فكان جزءاً من موجة جديدة من السينما الإيرانية بدأت في ستينيات القرن العشرين، حيث اشتهر بقصصه الواقعية التي ركزت على حياة الأشخاص العاديين إيماناً منه بأن الواقع أهم من السينما، ومنه التقط أقل الأحداث بساطة وأهمية في الحياة العادية، ليصنع منها أعمالاً فنيًّة فريدة تدور في معظمها حول معاني الحياة والموت والحب والفطرة الإنسانية والصداقة والجمال ليعرضها بأسلوب ينتمي للسينما الواقعية بأسلوبه الخاص، فاستحق لقب رائد السينما الواقعية الحديثة، وها هو يؤكد حين يصف نفسه بأنه رجل المضمون أن شكل عرض المضمون لا يشغله كثيراً، فالحياة تعرض مضمونها برداءة، وإذا كانت السينما برأيه صورة من الواقع، فهي لا يجب أن تحتوي على الإبهار البصري، لهذا يرد كياروستامي دائماً على من يصف أفلامه بالملل –ومنهم الناقد الشهير روجر إيبرت- بأن إيقاع الحياة بطيء، وهو لا يستطيع أن يصنع فيلماً هوليودياً يدافع النقاد عنه، وفي هذا يتناغم مع مقولة هيتشكوك في أن الرسام الذي يرسم تفاحة لا يهتم إن كانت التفاحة المرسومة حلوة أم حامضة، وفي هذا المجال عُرِف عنه أيضاً أنه لا يؤمن بالسينما التي تقدم نسخة واحدة فقط من الواقع، فهو يفضِّل أن يصف أكبر عدد ممكن من التعبيرات عن حالة بعينها، ويعطي الفرصة للمشاهد في أن يختار بحرية ما يلائمه..يقول: “لقد رأيتُ بعض من شاهدوا أفلامي يملكون من الخيال أكثر مما أملك.. أحب أن أترك التفسير مفتوحاً لمشاهدي وكأنه مالك الفيلم لا أنا”.
ينتقد كياروستامي الأساليب التقليدية المتعارف عليها في صناعة الأفلام، منها القول بأن المُشاهد إذا لم يفهم القصة في الأجزاء الأولى فقد خسره المخرج، رافضاً أن يلتزم بقانون كلاسيكي: “أنا دائماً كمشاهد لا أريد أن أعرف كل شيء من الدقائق العشر الأولى..أريد أن أتتبع الحكاية مثل قصة شهرزاد حتى أصل في النهاية أو لا أصل”.
ولد كياروستامي عام 1940 ودرس الرسم في جامعة طهران ثم بدأ العمل كمصمم لأغلفة الكتب والجرافيكس قبل أن يتجه إلى تصوير عدد كبير من الإعلانات التجارية للتلفزيون الإيراني، وفي العام 1969 التحق بمركز الرعاية الذهنية للأطفال والمراهقين، حيث رأس قسم السينما وتمكَّن من تصوير أفلامه الأولى، وفي العام 2005 صرح كياروستامي للغارديان قائلاً: “كان يفترض أن نصنع هناك أفلاماً عن مشاكل الأطفال..في البداية كانت مجرد وظيفة، ثم صنعت مني فناناً”.
أمينة عباس