ثقافة

“عتبة الألم” و”ألف شمس مشرقة” و”ساق البامبو” شخوص تستصرخ للانعتاق من الورق

بينما الجدل لا يتوقف حول من يخدم من أكثر؛ أو من يتكئ مرتاحاً على الآخر؛ بين الرواية والعمل الدرامي، تأتي حقيقة واحدة وبشكل جليّ؛ أن بعض الروايات تفرض نفسها ما إن تخرج من المطابع وكأني بها تقول: “ها أنا نصاً وحكايةً؛ جاهزة كي أطلق شخوصي المرسومة على الورق؛ تمارس حياتها بشكل طبيعي سواء على الشاشة أو فيما بينكم، إن هي إلا بعضاً منكم”.
من بين تلك الروايات والأعمال الدرامية ما أخذ حقه من القراءة والنقد ما إن بدأت العروض على الشاشات؛ ومازالت؛ ذلك ما كان مع مسلسل “الندم” الذي هو حتى الآن حديث المشاهدين، والمأخوذ عن رواية حسن سامي اليوسف “عتبة الألم”؛ كما مسلسل “أيام لا تنسى” الذي قدّمه أيمن زيدان، والذي بدا حريصاً على أن يفرغ فيه عصارة سنوات طويلة من الخبرات في الساحة الفنية؛ فأتى عملاً لا ينسى، لا بل يدفعك لإعادة الكرة تستعيد فيها شخصيات رواية “ألف شمس مشرقة” في بيئة مختلفة تحكي ذات الحكايا وتشكو المظالم نفسها.
بينما قدمت الدراما الكويتية عملاً حقيقياً ربما هو للمرة الأولى، من خلال مسلسل “ساق البامبو” المأخوذ عن رواية تحمل الاسم ذاته، للروائي سعود السنعوسي حازت جائزة البوكر في العام 2013، وكانت الرواية كما العمل الدرامي؛ قوبلت بالرفض والنقد أوان صدورها لما تحلّت به من جرأة، كونها استطاعت اختراق الخطوط الحمر، بل تعدت ذلك ومسّت المحرمات الخليجية؛ وهو ما قدمّه المسلسل، الذي أتى بالتأكيد حقيقياً، مشرعاً بوابات القصور كاشفاً عوالمها التي لم نطّلع إلا على النذر اليسير المسموح منها؛ في ابتعاد ملحوظ عن قصص الحب التقليدية في المجتمعات المغلقة؛ والعلاقات  الاجتماعية فيها؛ تلك التي تقتصر على مشاكل تعدد الزيجات وما يجري إثرها من خلافات ومنازعات، فوضع بذلك الإصبع على جرح كبير مسكوت عنه، يعاني منه أولئك القادمين إلى الحياة من خلال زواج مرفوض في بيئة محددة، من خلال قصة “هوزيه” عيسى الطاروف، الذي تنازعته هويتان مختلفتان كلياً، فهو ليس سوى ثمرة مغامرة الأب راشد بالزواج السري من الخادمة الفليبينية التي أغرم بها، والذي يرغم فيما بعد على التخلي عنها، يطلّقها تحت تأثير خوف العائلة من العار، حيث ترغم الضحيتان بلا جرم “الأم والطفل” على الرحيل إلى الفليبين، ليعود الطفل فيما بعد شاباً إلى الكويت يبحث عن نصف هويته الأخرى، والده وبيت الجدة، التي تتكتم عنه وتعامله كواحد من الخدم، فيضيع الفتى بين حبٍ وودٍ حقيقيين من البعض، ورفض البعض الآخر المتمثل بالجدة والعمة، بينما الأب مفقود منذ حرب الخليج، تتوالى الأحداث تتقاذف القادم الغريب كي يلجأ مدفوعاً بالرفض من جهة، وسوء المعاملة والنظرة الدونية إلى المختلف بالشكل، إلى العزلة خياراً وحيداً لاكتشاف ذاته؛ يقول لابنة عمته بعد توقيفه في مركز الشرطة: “أحتاج الآن أن أبتعد، أحتاج إلى زاوية صغيرة أقف فيها أمام عقلي، حيث لا مفر من المواجهة”.   العمل الذي ابتعد بشكل ملموس عن الشكل والمضمون التقليدي الذي اعتدناه من الدراما الخليجية، إلى حيث ركّز على ما يتنازع دواخل الشخصيات بدءاً بالجدّة إلى العمات باختلاف أفكارهن، إلى غسان “البدون” وعلاقته التي لن تتكلل بالزواج من العمة الناشطة الحقوقية، إلا بعد مواجهة شجاعة مع العائلة والمجتمع، حتى ابنة عمته التي أُغرمت به واختارت السفر إلى الخارج لإتمام دراستها تلافياً للوقوع في ذات المطب، ما يرغم الفتى في النهاية وبعد التأكد من وفاة الأب إلى العودة إلى الفليبين، يعيش بين أناس يشبهونه ويقبلونه، يعيش بينهم بسلام، يقتله شعوره بالتمزق والحب لأرض وهوية رفضته، متأملاً “ساق البامبو” حاسداً إياها، لو أنه مثلها؛ أينما تم قطع ساقها وأنى تم غرسها، تنمو وتكبر؛ وتفرد أوراقها، لا ماضٍ لها ولا ذاكرة تعيق تأقلمها مع التربة الجديدة، يكتب قصته التي ستعلن حقيقته- التي حاولت الجدة تغييبها جاهدة- للعالم كله؛ وليس لمجتمع العائلة الصغير فقط.
في كلمة حق لابد منها: إن العمل الذي واجه العديد من المشكلات أثناء الإعداد له أتى متكاملاً، أجاد التعامل مع النص وعوالمه الدقيقة، كما أتقن ممثلوه أدوارهم، من الجدّة “سعاد العبد الله” مروراً بأصحاب الأدوار الثانوية، كما بقية أفراد العائلة وسكان البيت الكبير مسرح العمل الرئيسي، وصولاً إلى محور القصة “هوزيه عيسى” الذي أدّى دوره الممثل الكوري “ونهو تشونغ”.
هذه الأعمال وسواها إن هي إلا نوع من تأكيد على أن بعض الروايات تأتي كما قلنا سابقاً جاهزة لتكون حيّة تتنفس؛ مستعدّة للانعتاق من أسر الورق، تستصرخ أن تخرج إلى الحياة، لا تحتاج إلا للجهة القادرة على القيام بعملية الانتقال السليمة تلك إلى شاشات العرض المناسبة.

بشرى الحكيم