ثقافة

“أرمن دمشق”.. وجود أصيل وحضور غني في تاريخ سورية

يؤكد الدكتور سركيس بورنزسيان في كتابه “أرمن دمشق”- الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- بأن الأرمن متأصلون في سورية، وينفي المعلومة المتداولة عبْر العصور بأن موضع الأرمن الأساسي في حلب، وليس هذا فقط إذ يؤكد الكتاب من خلال الأدلة والوثائق والبراهين أن حضور الأرمن في سورية لا يعود إلى زمن الإبادة الأرمنية، وإنما وجودهم متأصل في سورية من خلال هجرات كبيرة منذ القرن الخامس الميلادي، وقد التجأ الناجون من هول الإبادة العثمانية والموت إلى سورية لموقعها الجغرافي على طريق الحج وإلى أقربائهم لتصبح سورية وطنهم الثاني.
ويتميز الكتاب بالسرد التاريخي وصولاً إلى المرحلة المعاصرة وبالتكثيف السردي التوصيفي لكنائس الأرمن، كما يتضمن شيئاً من علم التراجم بذكر سير ذاتية لشخصيات أرمنية أثّرت في الحياة.
واللافت أن الكاتب اعتمد على توثيق معلوماته بالصور المؤرشفة لمعالمهم، وتأخذنا صفحات الكتاب إلى عالم آخر من حياة الأرمن الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ليظهر في النهاية قوة الأرمن وتمسكهم بإرادة الحياة وتحديهم من سلبهم أرضهم وحياتهم الآمنة، وفي منحى آخر يعد الكتاب وثيقة باللغة العربية عن إنجازات أرمن دمشق، وركز الكاتب على دور الإعلام السوري في متابعة فعاليات الأرمن في عام إحياء ذكرى الإبادة، والمطالبة بالاعتراف وباستعادة المقاطعات المسلوبة من قبل العثمانيين، تركيا اليوم، وبدا هذا واضحاً في اختيار الكاتب مقتطفات من المقالات المنشورة للكلمات التي ألقاها المطران آرماش نالبنديان والموجهة لرعيته في سورية وللأرمن في بلاد الشتات، وفي الفعاليات التي حضرها وشارك فيها السفير الأرمني في دمشق د.أرشاك بولاديان، وأهمها مبادرته بإطلاق لجنة إحياء الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية. كما نفى الكاتب معلومة سائدة بأن أسماء العائلات الأرمنية تنتهي بـ “يان” وتعني بالعربية “آل” وأكد بأن هناك كثيراً من أسماء الملوك والأمراء والعائلات لا تنتهي بها.

العلاقة بين دمشق والأرمن
وتناول المؤلف في الباب الأول (الوجود التاريخي للأرمن في دمشق) أوضاع الأرمن إذ تمتعوا في ظل الدولة العربية بالحماية الكاملة ولم يتعرض أحد لشؤونهم الخاصة، أولها دينهم المسيحي وكنيستهم الرسولية، وقد دوّن الكاتب المراسلات التي أكدت ذلك، وبعد سرده التاريخي لفتح أرمينيا، تناول العلاقات الأرمنية- العربية التي اتسمت بالازدهار في القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، وفي المحور الثاني تحدث عن هجرة الأرمن إلى دمشق، والتي بدأت في عهد ديكران الكبير وحتى ظهور الدولة الأموية، لكنها كانت متفرقة حتى القرن الخامس الميلادي، وحينما أصبحت دمشق عاصمة الدولة الأموية توطدت العلاقة بين دمشق والأرمن، وفي القرن الرابع عشر حينما احتل تيمورلنك دمشق أحضر معه بعض الأسرى الأرمن فانضموا إلى دمشق، وفي عام 1445ظهرت أول مخطوطة مكتوبة باللغة الأرمنية في دمشق.

مخيمات الأرمن
أما المرحلة الثانية، بدأت بعد القرن التاسع عشر عقب مراحل الإبادة ليتغير منحى السرد التاريخي ويدخل عتبة سرد معاصر يحكي عن المخيمات التي حمت الأرمن من براثن الموت وهول الإبادة، وكانت نواة لتشكيل بيوتهم وفق الطراز الأرمني المعماري، وبداية لتشكيل ملامح المجتمع الأرمني في دمشق من مخيم الزبلطاني القريب من كنيسة الصليب الذي توافد إليه المهاجرون عام 1916حتى 1920وسكنوا ضمن خيام وبيوت طينية بين أشجار التوت والمشمش والجوز، ومن ثم توسع المخيم فوصل إلى حدود كنيسة الصليب المقدس وسُمي بمخيم ختشير، وفي بداية العشرينيات، انتقل الأرمن من الخيام إلى البيوت ذات الأسطح المثلثية، وحينما شعروا بالاستقرار بنوا بيوتهم وفق ما كانت عليه في كيليكيا مؤلفة من طابقين، ويحمل السقف على جسور خشبية، وفي نهاية الأربعينيات تطورت بيوت الأرمن فاستخدموا البلوك والإسمنت.

حياة اجتماعية بسيطة
واتسمت الحياة الاجتماعية للأرمن كما ذكر الكاتب بالبساطة لاسيما أن سكان المخيم من أرياف عنتاب ومرعش وأضنة وجبل موسى وغيرها، وارتبطت أجواؤهم بالنشاطات الثقافية إذ شكّلوا فرقاً محلية للعازفين الهواة الذين عزفوا آلام الحياة على العود والبزق والماندولين والكلارينيت والبنكوز، واهتموا بالرياضات الفردية مثل المصارعة، وقد أُسست أول مدرسة ابتدائية سُميت بابكينياكان، وعمل سكان المخيم بمهن متعددة واشتهروا بصناعة الأحذية، وفي بداية السبعينيات انتهى المخيم وأخذ سمة البناء الراقي.
ويذكر الكاتب أن المهاجرين الأرمن توافدوا في نهاية الحرب العالمية الأولى إلى مخيم باب شرقي في الطريق المؤدية إلى حيّ الطبالة إلا أن جاء د.لانسين مندوب الصليب الأحمر واشترى أرض المخيم، وتمّ تنظيمه عمرانياً من قبل المهندس الفرنسي برونيه وبقي محافظاً على شكله حتى الآن ويعرف بحارة الأرمن.

كنيسة القديس سركيس
وبدا حضور الكنائس واضحاً من خلال السرد التاريخي والتوصيفي في الباب الثاني (الطوائف الأرمنية في دمشق) إذ تطرق الكاتب إلى طائفة الأرمن الأرثوذكس، والكاثوليك، والأرمن الإنجيليين، وكما أورد في الفصل الأول طائفة الأرمن الأرثوذكس، فإن أول كنيسة أرمنية في دمشق هي كنيسة القديس سركيس مع الدير وشُيدت عام 1450. وأفرد الكاتب مساحة لوصف أجزائها وطوابقها وأقواسها ولوحاتها، إضافة إلى ملحق مبوب بأسماء السادة المطارنة والآباء للكنيسة –أبرشية دمشق وتوابعها الأرمن الأرثوذكس- ابتداء من النائب البطريريكي –المتروبوليت خاطأجاباهيان 1929-1932إلى سيادة المطران آرماش نالبنديان من عام 2004- حتى الآن.

الترجمة والإعلام والموسيقا
واتخذ المؤلف في باب (الحياة الثقافية لأرمن دمشق) سمة البعد الإحصائي لنشاطات الأرمن في كل المجالات، والتعريفي بشخصيات أغنوا المشهد الثقافي، فأشاد بدور الجمعيات واهتمامها بالمجال الثقافي مثل جمعية الجيل الجديد للثقافة والفنون –جمعية نورسيرونت- وتنشيط حركة الترجمة من اللغة الأرمنية إلى اللغة العربية، مشيراً إلى جهود، د.خشادور قصبيان ود. نورا أريسيان والأستاذة نابري كاشيشيان، وتابع عن الدور الإعلامي الذي قام به الأرمن من خلال عملهم بتأسيس الصحف الأرمنية مثل صحيفة المصيبة، وعملهم بالإذاعة والتلفزيون مثل الإعلامي مهران يوسف خضرليان، وفاهة تمزجيان ومنى كردي، إضافة إلى جهد الأرمن بتطور الموسيقا الشرقية والكلاسيكية والجاز وتشكيل الفرق، متوقفاً عند أهم الموسيقيين الأرمن السوريين الذين دخلوا العالمية مثل المايسترو ميساك باغبورديان، والمايسترو أرمينوهي سيمونيان ولينا شماميان، كما رفد الأرمن الحركة المسرحية من خلال فرق مميزة مثل فرقة توريان، وجهود بعض المخرجين المسرحيين مثل مانويل جيجي ودافيد بارسيخيان، وأغنوا الحركة التشكيلية بأسلوب منفرد مثل الفنان خاتشيك طوباليان، وتابع عن نشاطات جمعيات الأرمن الخيرية في المجتمع مثل جمعية الصليب لإغاثة الأرمن الأرثوذكس.

تراجم الأرمن
وفي الباب السادس (الصناعات والمهن) تبنى المؤلف الأسلوب الإحصائي أيضاً في ذكر إسهامات الأرمن في الأشغال العامة والإنشاءات والصناعات والمهن التي اشتُهروا بها مثل صناعة البصريات والميكانيك والمعادن والأحذية والنسيج والصناعات الغذائية والتصوير، وفي الباب السابع (بعض أعلام أرمن دمشق) اتخذ الكاتب أسلوب التراجم في إيضاح السير الذاتية لبعض الأرمن الذين أثّروا بالحياة في مختلف العصور مثل أديب اسحق والأب ساهاك كشيشيان والنائب فريد أرسلانيان ود.فاهه يعقوبيان.

توثيق الإعلام السوري
الأمر الهام أن الكاتب وثّق الإعلام السوري الذي وثق الإبادة ابتداءً من الذكرى الخمسين عام 1965، وإزاحة النصب التذكارية لشهداء الأرمن، إلى توثيق فعاليات المئوية عام 2015 بمشاركة المطران آرماش نالبنديان والطوائف المسيحية إضافة إلى المسيرات الدينية بقيادة المطران نالبنديان، كما دوّن مبادرة سعادة السفير الأرمني في دمشق د.أرشاك بولاديان بإطلاق لجنة إحياء المئوية، ونشره كتبه التي ألّفها عن الإبادة ومشاركاته بالفعاليات على مدى العام.
في النهاية تبقى كنيسة القديس سركيس شاهداً على وجود الأرمن وتأصلهم في سورية كونهم جزءاً أساسياً من نسيج المجتمع السوري . بقي أن نقول إن الكتاب يتألف من 315 صفحة من القطع الكبير.

ملده شويكاني