ثقافة

حلــــــم فاســــــد

كان لا بدّ من الانتظار ولو كلف الأمر أياما من اللوعة ومراقبة الزمن وهو يمر أمامه بطيئا ثقيلا. كل الأشياء التي أحبَّها في حياته طالبته بالانتظار حقا مشروعا، نعم الانتظار مهر الأحلام الجميلة.

منذ فترة و هو يحاول أن يقتصد في مصاريفه، وكلمة يقتصد من الاقتصاد وهو علم قائم بحد ذاته ومن الصعب على كل الناس أن تفهمه أو أن تدير دفته, فكيف وهو ربّان بسيط.. موظف على الشهادة الإعدادية التي نجح فيها بصعوبة. لكن ما مرّ به على مدى أعوام من الخراب والفقر وضيق الحال جعل منه رجل اقتصاد من درجة لا بأس بها, بل إن سرعة بديهته ونسبة ذكائه ارتفعت بشكل تلقائي وعفوي، فأصبح يجيد حساب الديون وتقسيم الراتب على شهر كامل بكل عبقرية، ربما هذا من النتائج الإيجابية لما حصل معه خلال سنوات طويلة، شأنه شأن معظم من شاركه الحياة تحت السماء ذاتها.

أن تكون محدود الدخل يعني أن تحب الروتين، والروتين لا يتعلق بالأعمال وحسب  بل بالحواس الخمس أيضا..  رؤية الوجوه نفسها، سماع الأحاديث والهموم تتكرر كل يوم، استنشاق الغازات والروائح المضرة بالصحة (انفجار مولدة كهرباء، دخان باص نقل داخلي، حفلة شواء على سطح ما في أواخر الشهر..)، لمس البضائع ومنتجات الأسواق برؤوس الأصابع فقط، وتذوق نوع واحد أو نوعين في أحسن الأحوال, هذا هو المفهوم الحديث للروتين.

الحلم على بعد خطوة، لقد اكتمل المبلغ تقريبا وكل اللوازم الأخرى أصبحت جاهزة، وبعد ثلاثة أيام فقط سيكون على الموعد بعد أن قطع عن نفسه أشياء مهمة.. كان يوفّر خمسين ليرة يوميا ويخبئها في علبة مقفولة لا تفتح إلا إذا شقت بطنها سكين حادة.

في اليوم المنتظر، استيقظ والفرحة تكاد تفرّ من عينيه، فتح النوافذ ليدخل الصباح بحرية، ابتسم لجاره وسلّم عليه, الأمر الذي أثار استغراب الأخير فهو مكشّر دائما ولا يضحك أو يبتسم, لكنّ مزاجه اليوم يسمح بممارسة الطقوس والعادات الاجتماعية التي نسيها في ظل هذه الظروف.

“كيلو غرام لو سمحت” قالها بثقة وكأنه يتحدث عن طن كامل وليس عن كيلو وحيد مسكين، أحس أنه مسؤول عن كلمته وغير آبه للسعر، لأول مرة يشعر بالراحة وعدم الإحراج، لم يتعرق ولم يتغير لونه، هو رجل يعرف ما يريد و جيوبه لن تخذله.

عندما عاد إلى المنزل، بدّل ثيابه وبدأ العمل والتحضير وحين انتهى من كل شيء, جلس على الكرسي وحلمه يتمدد أمامه على الطاولة ذهبيا بلون الشمس، مقليا بزيت نباتي خال من الكولسترول.. سمك السلطان إبراهيم.

سحب أول سمكة بخجل وكأنها عروس في ليلة الدخلة وبدأ يغازلها على طريقته، ثم سحب الثانية والثالثة وهكذا حتى آخر واحدة.. امتلأ بطنه وشعر بلذة خفية جعلته يسترخي وينام على الفور.. إنه وبلا شك تأثير السلاطين عليه.

بعد ساعتين تماما، كان جاره وسيارة الإسعاف تحت منزله، لقد اتصل به مستنجدا من ألم حاد في البطن مع حالة إقياء شديدة.. لا بدّ أن الحلم الذي انتظره طويلا لم يناسب معدته أو ربما كان مجرد حلم فاسد.

منذ ذلك الحلم, عاد إلى طبيعته وحياته اليومية, تكشيرة الصباح وعلم الاقتصاد وكل ما يأخذ شكلا واحدا فقط. إن تجربة كسر الروتين فاشلة وتذوق الضوء أمر مزعج لمن اعتاد على العتمة, حتى الأحلام بدت قاسية, وإن تحققت فهي تأتي على شكل  كابوس وقح وفي منتصف النهار .

ندى محمود القيم