في القراءة
غسان كامل ونّوس
تتعرّض في ثنيّات حضورك الأدبيّ، إلى أسئلة كثيرة غاصّة: لمن تكتب؟! من يقرأ؟! من يهتمّ بالأدب؟! أما زلت مقتنعاً بالثقافة؟!
لكنّ سؤالاً مختلفاً، ينهض من بين مَرارها: إنّ لدى ابني (أو ابنتي) اهتماماً بالأدب؛ فما الذي تنصح بقراءته؟!.
وقبل أن تنتشي بغلالة الغبطة من سؤال كهذا، تتمنّى أن يتكاثف، ويتكرّر، تقف في مواجهة إجابة ليست سهلة، ومسؤوليّة ذات قيمة وصدى؛ ولا سيّما في الزمن الحاضر، أكثر منه في ما مضى؛ حين كان يقال لنا في نصائح معمّمة، وبغايات نبيلة، وبإحساس غاصّ ناجم عن تلمّس معنى فقدانها، ومقدار الحاجة إليها، وبشعور عال بالقيمة والجدوى: عليك بالقراءة! وبتنا نقول ذلك أيضاً، وقد نعدّد خصال القراءة، وهي كثيرة، من دون شكّ. لكنّ ذلك يبقى منقوصاً، في انتظار الإجابة على السؤال الصعب: ماذا نقرأ؟!.
لم تكن الخيارات كثيرة، والمتداول من الكتب، القريب التناول، ليس منوّعاً؛ وتحتاج إلى البحث عمّا تريد، والسفر الذي كان شاقّاً، إذا ما كنت ستختار..مع ذلك، كانت الجدّيّة تدفع أكثر، واللهفة إلى المزيد من المعلومات الموثّقة، والخبرات المدوّنة، والحوادث والحكايات الممتعة، والأفكار الجديدة المغايرة، بجرأتها وطروحاتها تجعل الأمر ملحّاً؛ لأنّه يستحق!.
على الرغم من الحال غير الميسّرة التي كانت لدى الغالبيّة، والحاجات الأكثر إلحاحاً لتأمين الحدّ الأدنى ممّا هو ضروريّ لاستمرار الحياة!.لا شكّ أنّ كثيراً من الحاجات ما تزال ضاغطة، لكنّ كثيراً من التغيّر في كثير من الأمور الحياتيّة، جعل يسيراً ما كان عسيراً، وازدادت الإمكانيّات في الحركة والوصول إلى ما هو وفير، ويحتاج إلى رغبة وقرار.
لا شكّ في أنّ لكثيرين ميولاً، قد تيسّر لهم سبل الانطلاق، إذا ما كانوا في بيئة ثقافيّة مناسبة، أو إذا ما وَجدوا من يركنون إليه، ويأمنون وصاياه ورعايته؛ وللتربية الأسريّة هنا دور مهمّ؛ كما للأسرة المدرسيّة، في المراحل التي تلي، وهي عديدة، مسؤوليّات وأدوار..
ولكن.. علينا أن نعترف، بأنّ غالبيّة التوجيهات، التي تعطى في البيت أحياناً، إن لم نقل: الفروض التي يؤمر اليافع بالقيام بها، تمثّل اهتمام صاحب الحضور الأقوى في الأسرة، وليس الأب دائماً، وإن كان غالباً؛ فقد يكون الأخ الأكبر هو الأكثر فعاليّة، أو الجدّ، والعمّ، وربّما تأخذ الأمّ هذا الدور، أو سواها من القريبات..من دون أن يكون للولد (أو البنت) الحقّ في إبداء الرأي، أو الاختيار؛ ناهيك بالاعتراض، إذا ما كان قادراً على ذلك. وفي الواقع أمثلة عديدة مؤلمة لمواهب وُئدت، وتاه أصحابها في مهنٍ واختصاصات أخرى، ذات صدى أشهى وأدسم!.
ولنعترف..ليس في مدارسنا مهتمّون كثر بمثل هذا. وتستغرب أحياناً، ألّا يتنبّه مدرّس اللغة العربيّة إلى بذور موهبة، أو ملامحِ تَميُّزٍ في المفردات، وصياغة اللغة، أو التعبير، والخيال..في حين قد يقضي جلّ الوقت المخصّص للدروس في التلقين والتنقيل والتسميع، والحديث باعتزاز- ربّما- عن إعرابٍ مختلف، وقواعد شاذّة. وينسحب هذا، بمستويات متقاربة، على الاختصاصات الأخرى.لكنّ ذلك لا يعني، أن نحمّل المسؤوليّة للآخرين؛ كما نفعل دائماً في مختلف القضايا، ولا يعفينا، نحن المشتغلين بالأدب والثقافة، من السعي الجادّ إلى إجابة ناجعة عن السؤال، الذي قد يكون عابراً، وقد يكون في منتهى الجدّيّة: ماذا نقرأ؟! ولا سيّما- وهذا ما يجب أن نعيه نحن قبل سوانا- أنّ في الإجابة تقوية وتحصيناً لهيكل يتنامى، وترميماً وإعادة تشكيل..ربّما، مع أنّ الأمر لا يتوقّف على هذه المرحلة البنائيّة، ولا يقف عندها؛ بل يظلّ مطروحاً ومفتوحاً للتفكير والعمل والمبادرة والإنجاز.فليس الاستغراق في قراءة حادثات “الحياة الدنيا” مُشبِعاً، ولا الانغلاق في تكهّنات “الآخرة” مُجدياً، ولا النزوع إلى الأساطير والسير والحكايات التاريخيّة يكفي؛ كما أنّ الانبتات عن الفلسفة وعلم النفس والاجتماع..يعبّر عن الشحّ؛ ولا بأس- أو لا بدّ- من التفكير ببحوث النشوء والعصور، والانشغال بالزمن وتوالي الفصول، وسلاسل النجوم والكواكب، التي تمضي إلى لا مستقرّ لها، في كنف كون يتمدّد.
وهل في العمر القصير للكائن البشريّ، وعشرينيّاته الثلاث الأولى، وتساؤلاته المتفرّعة، ما يؤمّن التلقّي اللازم والكافي من العلوم والمبادئ والأفكار، للتخويض الحيويّ الجذّاب؟! وهل في ما يلي من سنيّ الانشغال الأسرويّ والوظيفيّ والمهنيّ..ما يمكن اقتناصه لترسيخ المفاهيم، وتحصيل الخبرات، وسدّ الثغرات، وتقويم المسارات، وتقوية الاستنادات والمعابر، والاكتناز الضروريّ للحضور الفاعل المؤثّر؟! ومع ما في المجالات، من تنوّع في المصادر والمراجع، والأفكار والأقوال..هل ما تبقّى من الأوقات المقدّرة، يكفي لاستكمال البنى الفكريّة، والوصول إلى الاغتناء والاقتناع والإقناع؟! إذا ما كان في العمر المُجدي بقيّة أو إمكانيّة؟!.