ثقافة

“وديع اسمندر”.. السنديانة وقد أتعبها الوقوف الطويل

أمعنت النظر به  متسائلة: أهو ميت حقاً؛ أم أنه مجرد نوم مؤقت ومفاجئ، لكنها ومن تعابير وجهه الذي خبرته عرفت في قرارة نفسها أنه لم ينسَ شيئاً، فسارعت إلى طبع قبلة اعتذار على الجبين البارد؛ بينما عيناها تحاولان عبثاً البحث عن بقايا زرقة للبحر في العينين الناعستين، قالت في سرها لعله متمدد كي يستريح؛ كما شجرة السنديان وقد أتعبها الوقوف الطويل، وللحظة كادت الابنة المكلومة بأبيها أن تصرخ بالجميع: “اصمتوا، احترموا هجوعه الأخير، من حقه أن يستريح بعد سبعين حولاً أو يزيد، من اليقظة المتعبة”. والغريب والمحزن أن سبعين عاماً وأكثر من اليقظة المتعبة لن تجد لها توثيقاً على محركات البحث جميعها، ولن تجد ذكراً لكاتب اسمه وديع اسمندر، ألم أقل لكم يوماً إنه” غوغل الثعلب”.

صحافة وتاريخ
وديع اسمندر الذي ولد في الزيادية في محافظة اللاذقية، درس التاريخ والصحافة في جامعة دمشق، جاعلاً من الاختصاصين وسيلته للولوج إلى عالم الأدب والكتابة الصحفية، بدأ حياته العملية كقارئ نصوص في الإذاعة والتلفزيون، ثم انتقل إلى دائرة الأخبار كمعد للنشرة الإخبارية، بعدها عمل في الكتابة الدرامية فأنجز العديد من الأعمال، تمثيليات إذاعية ومسلسلات تلفزيونية، كان منها “عطر البحر، القاضي والجلاد، الشمعة والدبوس، حارة الباشا، الزيزفون ورجل بلا حدود” ونال العديد من الجوائز عن فيلم “النجمة وأحلام أسامة” الموجه للأطفال.
اسمندر الذي عمل للوصول بالقصة القصيرة إلى مستوى من النضج يؤهلها فيما بعد للبقاء والاستمرار عبر قواعد متشددة وصارمة بعيداً عن الاستسهال، بدأ إنتاجه الأدبي بمجموعته غريبة العنوان “اللبش” تلك التي أهداها إلى” شهداء لقمة الخبز من عمال البحر في ميناء جبلة” وفيها رصد لصيق لحياة وقصص الصيادين القائمة على المغامرات والمحفوفة دائماً بالمخاطر، أتبعها بثلاثة أعمال روائية هي “دموع السقف الحجري، سيرة رجل ما والخميس الحزين” بينما كان آخر إنتاجاته الأدبية مجموعته “الكأس”.
في الكأس تصدى اسمندر للعديد من القضايا الكبرى، وكما اعتاد الابتعاد عن الاستسهال، كان حريصاً على الابتعاد عن الشعارات والتكرار الممل، فيها تناول قصص المظلومين ووقوفهم في وجه الطغاة، الخيانات؛ حكايات المجتمع وقصص العائلة تميز من بينها رسالة الأم إلى ابنها الهارب؛ إذ تقول في لحظة غضب وعتب: “أيعقل أني لم ألد من صلبي سوى حفنة من الندابين المعفرة وجوههم بالهوان”. بينما في قصة “رجل بلا اسم” التي أهداها لأخيه، وفيها حكايته التي اعتاد روايتها دائماً؛ وكيف أتى إلى الحياة بعد سنوات ثلاث من فقدان عائلته لشقيقه، حيث كان عليه أن يحمل اسمه وتاريخ ميلاده، ما كان دافعه كي يردد أمام الجميع: “أنا رجل بلا اسم ولا شهادة ميلاد”.

شهيد للبيع
في الحياة اعتبر أن مصدر فخره الكبير استشهاد والده في حرب 48 إذ يقول لصديقه باعتزاز: “تخيل واحد يروح من الزيادية ويستشهد بفلسطين” الاستشهاد الذي كان مدخله إلى عالم العمل المسرحي من خلال مسرحية “شهيد للبيع” كان كتبها في العام 1974 ولم يتسنَ  له رؤيتها مجسّدة على الخشبة إلاّ العام الفائت؛ بتوقيع من المخرج غسان جبري، حيث لاقت إقبالاً جماهيرياً لافتاً.

سهول الغاب
من شعره وقد عرف عنه حبه وعشقه لسهول الغاب وقراه الجميلة:
على كتفي “جبل التلاجة” الجبارين وقفت مشبعاً بالبخور وبالعنفوان
وبعيني إله بحري نظرت إلى الشمال والشرق وسمعت قلبي يهتف فرحاً:
– يا لها من بلاد..
سهول الغاب تلوح بمناديل الربيع لشرفات المنازل في حمص وحماة
والدروب تندفع كالشرايين إلى المدن والقرى
تحمل معها المواسم وأغاني الفلاحين
ربابة حسن الشريف تعزف الحزن الجميل
وبارودة أبو صالح ودياب تزغرد للضيوف
وصوت أبو عدنان الحنون يملأ الأفق بالرحمة
أيتها الذرا الوقورة: بربك كيف يرى المرء كل ذلك ولا يرقص؟
عاريا رقصت فوق جبال دير ماما
وهناك
بين يدي آلهة البطم والسنديان
تركت روحي أمانة في ذاكرة الفصول.
بينما خص الأم بتكريم خاص في قصة قصيرة مؤثرة نشرها في العام 1976 بعنوان “عملية نقل دم” وفيها يقول:
“ثم لم أعد أسمع سوى نبضها بدأ نبض أمي يتسرب إلي، يسري في داخلي إلى حيث لا أدري، أحسست في نبضها حرارة الجمر وقوة الريح الحبيسة، شعرت بأمواج دمها تتلاطم بين السبابة والإبهام، تتحرك كجنين في شهره التاسع، فأدركت أن أمي لن تموت وأنها ستلد نفسها من يدها:
– الدم وحده ينقذها!.
قال زوج أمي بفرح خفي وكأنه قرب نجاتها، ارتجفت مفاصلي لسماع صوته المسموم، كان يعرف نقطة الضعف لدي، ويعلم مقدار حبي لها، فأنا الوحيد الذي يتوافق دمه مع دمها، لذلك كان يبحث عني كلما داهمها الخطر، حتى إذا تمكنت من منعها عن الموت، طردني ثانياً من البيت:
– هل تعد المرأة المظلومة وسيلة للتخلص من زوجها؟!.
تذكرة كؤوس السم، والخناجر، وأوراق الطلاق، تساءلت مكرهاً:
– لعلها استمرأت ذلها؟!.
كنت حششت العواصف بين رجل يعمل على قهر أمي كل يوم، وبين أمي التي أحبها ولم تتعلم بعد كيف تصون دمي في جسدها، لكنني حين أمعنت النظر إلى وجهها الشاحب الجميل، ورأيت صدرها يعلو ويهبط كصدر بحر نائم لم أتردد في الكشف عن ساعدي لتبدأ عملية نقل الدم”.

نأي
في وقت لاحق وحين بات العمل مرتبطاً بمتطلبات رأس المال؛ الأمر الذي رأى فيه خيانة للقلم والوطن، اختار أن يكتفي بما قدّم من إنتاج أدبي، مبتعداً عن ضجيج الإعلام، نائياً بنفسه عن الحضور المجاني في الصورة الأدبية، بينما لم تمنعه سنوات عمره السبعين عن التواجد على صفحات التواصل الاجتماعي؛ حيث كتب في يومياته “عالماشي”:
هناك مثل قديم يقول: “من اعتاد أن يأكلك كلما شاهدك يشعر بالجوع”.
العثمانيون أكلونا أربعمئة سنة ودول الغرب الاستعماري أكلتنا لسنوات طويلة وها هم الآن يحاولون أكلنا من جديد” ثم يكمل بلسان المؤمن بوطنه المتعالي على جراحه: “المهم أن سورية ومن معها من شرفاء العالم تقاتل هذا الوحش الإرهابي ومن يقف وراءه، وليس أمامنا سوى المقاومة والصمود دفاعاً عن أرض الأجداد ومنع هؤلاء الوحوش من إعادة التهامنا من جديد.

بشرى الحكيم