نقد عربي معاصر
نوار شداد
يحمل النقد بشكل عام كثيراً من المعاني الإيجابية, أكثر مما يحمل من معان سلبية, فالنقد لم يأت لإظهار السلبيات فقط بل إنه أشمل بكثير من تلك الرؤية فهو دراسة ونقاش وتقييم الأدب ومحاولة يشترك فيها ذوق الناقد مع فكره لتقييم الأعمال الأدبية، والكشف عن مواطن الجمال فيها وتمييز جيدها من رديئها.
ولعل تساؤلات مهمة تبادرت إلى أذهان الباحثين والدارسين لتاريخ أدبنا العربي خلال القرن المنصرم, حيث شكّل هذا التاريخ سلسلة قد تكون منقطعة أحياناً ومختلفة السماكة أحياناً أخرى، نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية فرضت نفسها على الساحة العربية, ولعل من أهم تلك التساؤلات: كيف يمكن أن نكون جزءاً فاعلاً في هذا العالم الحديث؟!. حيث انقسم المفكرون والباحثون في ذلك الوقت إلى مجموعة من الآراء, فهنالك من قال: إن التراث العربي يمكن أن يكون أساساً للانطلاق من أجل تشكيل نقد عربي حديث, بيد أن ذلك التراث قد احتوى كثيراً من الإبداع والموروث الذي يمكن أن نستند إليه. في حين هنالك من رأى أن ذلك التراث لا يكفي من أجل الانطلاق في هذا العالم, ولابد من تطعيمه- أي التراث- بالإنجازات الإنسانية الحديثة؟. وهنالك من وجد في القطيعة مع هذا التراث حلاً من أجل تشكيل فكر عربي جديد.
كما شهدت الساحة الأدبية العربية والفكرية أيضاُ, صراعاً عنيفاُ بين أصحاب تلك التيارات, وبرز قسم نادى باستعانة النقد العربي بالنقد الغربي, (فلدينا اتجاهات نقدية حديثة؟! بمصطلحاتها وأسسها وقواعدها! فلماذا لا نعتمد عليها؟ لاسيما وأن الفكر الإنساني هو إنجاز إنساني بالمحصلة؟!), فشكلت تلك الحساسية بداية لما يمكن أن يسمى نقداً عربياً حديثاً. وبرزت ضمن ذلك النقد ثلاثة اتجاهات بحسب المنهج (التوجه) لكل منها مناصرون في الساحة الأدبية العربية. أولها الاتجاه الذي يركز على المؤلف: حيث رأى أصحاب ذلك الاتجاه بأنه لا بد من فهم المؤلف جيداً حتى نصل إلى فهم عميق للنص, فتجب دراسة المؤلف قبل دراسة النص, ولعل أهم اكتشاف ظهر ضمن هذا التوجه هو (المنهج النفسي) والذي عد من أساسيات النقد. وجاءت فكرة ذلك المنهج في الأصل من “مدرسة التحليل النفسي” ومؤسسها “فرويد”, حيث إن هنالك علاقة كبيرة ومهمة بين “سيكولوجية” المؤلف وبين مايبدع وبالتالي لابد من دراستها حتى نفهم ماهية النص.
أما الاتجاه الثاني فهو ذلك الاتجاه الذي ركز على النص: وفي بحثنا لنشأة هذا الاتجاه أصلاً فقد نتج عن الدراسات اللغوية التي بدأها (دي سوسير) زعيم المدرسة البنيوية في اللسانيات, عندما ميز بين اللغة والكلام. وحدد كيف تكون اللغة الشعرية, فمع تطور العقل البشري أصبح الإنسان يستخدم اللغة لدلالات مختلفة، وبالتالي انزاح باللغة عن معناها الأصلي الذي وجدت من أجله. وهذا ماسمي (بالانزياح) فحمّلت تلك اللغة دلالات ومعان مختلفة عن دلالاتها الأصلية وغدت لغة موازية للغة الأصلية. فتلك الدراسات اللغوية جعلت مجموعة من النقاد يقولون: إنه في النهاية من أجل فهم نص ما لا بد من دراسة لغته وبنيته بغية الوصول إلى فهم شامل له.
أما الاتجاه الثالث فهو الذي ركز على المتلقي, ومن أشهر نظرياته “نظرية التلقي” أو “جمالية التلقي” والتي ظهرت في نهاية سبعينيات القرن المنصرم على يد “روبرت ياوس” فوجد أن هنالك إهمالاً كبيراً لركن أساسي ومهم من أركان الإبداع الأدبي ألا وهو المتلقي الذي هو أساس العملية الإبداعية, ذلك أن النص بلا متلق هو نص ميت لن تكتب له الحياة ولا يمكن أن يعيش, وبالتالي فإن القارئ هو الذي يعيد إحياء النص الأدبي ويعيد تشكيل معناه, وذلك من خلال زاوية الرؤية والتي تختلف من شخص لآخر، لاختلاف المرجعيات التي يستند إليها القارئ وهذا ما سمي “بأفق التوقع” تلك المرجعيات التي تتأثر بعوامل عدة كالثقافة والوعي والانتماء والمعتقد. إذن، إن تعدد القراءات يعود إلى تعدد المرجعيات واختلافها وكل قراءة لنص ما هي قراءة مؤقتة بانتظار قراءة جديدة.
ونافلة القول: شكلت تلك الاتجاهات والمناهج النقدية, أرضية خصبة لحراك فكري وثقافي لدى الدارسين والباحثين في ماهية النقد المحدث, وللساعين أيضاً إلى تشكيل نقد جديد وعصري في الساحة الأدبية العربية, ولا شك في أنها وجدت موازيات لها – أي الاتجاهات- في تلك الساحة ترقى وتؤسس لما يمكن أن يسمى نقداُ عربياً حديثاً.