سارة التي هدمت الإمبراطورية العثمانية.. مجـاورة الحقيقة حينـاً والخيال أحياناً أخرى
إلى “س . أ .”.. لقد أحببتك ولذلك جذبت بيدي هذه الجموع من الناس مسطّراً إرادتي بالنجوم عبر السماء؛ كي أستحصل لك الحرية، والملاذ الجدير بك “منزل الأعمدة السبعة” لعل عينيك تشعّان من أجلي عندما أجيء.. لقد بدا لي الموت قادماً في الطريق إلى أن اقتربت ورأيت من تنتظرين، لقد تبسمت حين سبقني إليك مدفوعاً بغيرته الحزينة ويلقي بك في سكينته”.
لم تكن الشخصية الغامضة؛ الوارد اسمها في بداية رسالة لورنس الذي لعب دوره على أكمل وجه كجاسوس في ثوب صديق مزعوم للعرب، سوى “سارة” التي أهداها كتابه “أعمدة الحكمة السبعة” والتي تمت إماطة اللثام عنها بعد أن بدأت الأسرار الكبرى بالخروج إلى العلن، ليعرف العالم أنها “سارة أرونسون” التي توّلت إدارة دفّة العمل الرئيسي ضمن شبكة تجسس “إنكليزية- صهيونية” وإليها يعزو صاحب الكتاب “آكدوغان” الدور الأكبر في انهيار الرجل المريض بشكل كامل، وترجيح كفة ميزان الحرب العالمية الأولى؛ ليصب في مصلحة الصهاينة ممهداً لهم الطريق للانتشار في فلسطين.
عالمة النباتات
“عتليت” المستعمرة الصغيرة التي أقيمت تحت اسم مركز للأبحاث النباتية قريباً من حيفا، واحدة من المراكز الرئيسية التابعة لشبكة التجسس الكبرى ومقرّها القاهرة؛ والتي تديرها عائلة “أرونسون” اليهودية المكوّنة من الأب وأولاده الخمسة، ومنها بدأت الاستخبارات البريطانية العمل لمساعدة اليهود بتحقيق الحلم الصهيوني في إقامة دولة على الأرض الفلسطينية.
وبحكم عملها كباحثة في علوم النباتات وإتقانها لغات خمس هي بالإضافة إلى العبرية؛ الفرنسية والألمانية؛ الإيطالية والعربية، تولت سارة العمل الرئيسي في الشبكة، معتمدة أيضاً قدراً كبيراً من الجمال والدهاء؛ عوامل وظفتها جميعاً؛ لتحقيق مرادها في اصطياد الضحايا؛ يساعدها في ذلك شبكة مؤلفة من مئة من الفتيات الجميلات وثلاثمئة من الرجال أيضاً، شكلوا مجموعة من الشبكات الفرعية في العديد من المدن العربية من بينها القدس دمشق بيروت يافا حيفا وحلب.
في بيروت وفي واحد من بيوتها؛ حيث كونت سارة علاقات متينة مع العديد من العائلات العريقة، تعرفت وبشكل مدبر على جمال باشا وزير الحربية في الإمبراطورية العثمانية حينها؛ وقائد جيشها وبجمالها الفتان قبل ثقافتها وعلومها، استطاعت الإيقاع بالرجل؛ لتصبح سريعاً محظيته المفضلة، لصيقة به ترافقه في حله وترحاله، تمكنت من الحصول على تصريح يسمح لها بحرية الحركة القانونية على كافة الأراضي التي تخضع لسلطته بحجة الدراسات الزراعية والبحوث العلمية التي تجريها؛ الأمر الذي يصب في أساس مهمتها ويسهل عليها إدارة عملها متكئة على شبكة الفتيات اللواتي توزعن على أشهر فنادق المدن حيثما وجدن، عاملات على اصطياد الضباط الألمان والأتراك، بغية الحصول على أسرار الخطط العسكرية المعدة لحربهم مع الإنكليز، بينما تعمل هي على بث الفتنة والفرقة بين الحكام العرب والأتراك، دفعاً بهم للارتماء في أحضان الحلفاء، وتسهيلاً للوصول “بالرجل المريض” إلى النهاية المرجوة.
وفي خطة لها عملت على تسريبها للإنكليز، حصلت بطريقتها على أسماء العديد من الشخصيات العربية المقربة من سفارتي فرنسا وبريطانيا، شكلت منها لائحة أوحت لهم بفكرة تسريبها إلى “جمال باشا” على أنهم مجموعة من الخونة، التي سيكون مصيرها الإعدام لاحقاً، الأمر الذي سيوقد نار الفتنة والفرقة بين العرب والأتراك.
الجنرال البريطاني
في لقاءٍ يتيمٍ بين الفتاة والجنرال البريطاني “اللنبي” يطلب إلى سارة التي خلبت عقله بدهائها وفتنتها، العمل سريعاً على تنفيذ مهمة كبرى؛ قِوامها “التأكيد على الأمير فيصل الالتحاق بوالده في مكة بغرض إبعاده عن الشام، إرسال خطط وتحركات القوات التركية إلى غزة، إعداد خطة لاغتيال أنور باشا، الترويج لتحركات القوات الفرنسية والإنكليزية لقطع طريق أضنة – اسكندرون، والأهم العمل على التنفيذ السريع لأحكام الإعدام بحق المعتقلين ممن وردت أسماؤهم في لائحة المتعاونين مع السفارتين الفرنسية والبريطانية”.
من خلال “فؤاد علي باشا” رئيس أركان الجيش الرابع؛ استطاعت الوصول إلى الأمير فيصل بن الحسين الذي أوهمته بعلاقات ودية سرية يقيمها والده مع الإنكليز، وتحثه على الالتحاق بوالده في مكة، من خلال إقناعه باقتراب نهاية الحكومة العثمانية، ومخططات الدول الأجنبية لاقتسام التركة، مشجعة له بالقول: “أليس حلم العرب إقامة إمبراطورية تمتد من جبال طوروس حتى بلاد اليمن” وتكمل مظهرة حرصها على سلامته؛ مستنكرة تمسكه بالبقاء: “يا إلهي أيها الأمير، أنا أعلمكم بقرار والدكم بان عليكم الرحيل إلى مكة فوراً”. موحية له أن المشانق قد باتت معلقة بانتظار الرؤوس الخائنة ولا بد أنه في عدادها.
وبمساعدة صديقتها وزميلتها في الشبكة “سيمون” التي رمت شِباكها حول أقرب الضباط إلى جمال باشا، استطاعت الحصول على كل ما يتعلق بتحركات القوات التركية وخططها المتعلقة بقناة السويس سربتها للحلفاء الإنكليز، أودت إلى ضربة عسكرية كبيرة تلقتها القوات التركية والألمانية بذهول، بين جنود قتلى وخسائر مادية ومعنوية كبرى.
بداية النهاية
وهكذا تجري الأمور كما خُطّط لها؛ لتبدأ الشكوك تحوم حول سارة بعد أن مني الأتراك والألمان بأكبر هزائمهم، وأوقع الطرفين في حيرة إذ “من يمكن له أن يعلم كل الأسرار والتحركات، ويقوم على تسريبها للأعداء”.
بعد التحقيقات المكثفة مع العديد من الضباط والقادة العسكريين تتجه الخيوط جميعها إلى شبكة التجسس التي تديرها عائلة أرونسون، الأمر الذي يدفع بالمحرك الأول لها “سارة” إلى الانتحار قبل أن يتمكن الضابط المكلف بإيصالها إلى القيادة.
“يقول فؤاد باشا كبير المحققين لجمال باشا: مع الأسف، الأمر حقيقي؛ لقد أجريت التحقيقات بنفسي. سارة جاسوسة فوق ما تتصور وأكثر مما كنا قد توقعناه وهذه هي ملفات التحقيق.
فأجابه جمال باشا قائلاً: حسنا ماذا ترون أن نفعل؟.
ـ إذا سمح الباشا؛ سآمر بإخلاء جميع اليهود من مدينة القدس وإرسالهم إلى الشام. فقال جمال باشا: ولكن ماذا ستكون ردود الفعل العالمية تجاه هذا القرار؟.
فما كان من فؤاد باشا إلا أن قال: أمن بلادنا أهم من ردود الفعل العالمية يا سعادة الباشا، إن الأحداث التي مرت منذ شهرين وأعمال التجسس التي واجهناها من قبل اليهود قد سببت لدولتنا خسائر كبيرة، علاوة على ذلك فاليهود كانوا يخططون لبناء دولة لهم على أراضينا في فلسطين بعد إجلائنا عنها، لقد كان هناك اتفاق قائم بينهم وبين الانكليز بهذا الصدد”.
ولكن كل ما سبق لم يمنع جمال باشا من إعطاء اليهود عهداً بعدم التعرض لهم خشية ردود الفعل العالمية، مقابل الحصول على المعلومات التي لديهم، ليغادر بعدها الشام تاركاً لمصطفى باشا إدارة الأمور الذي سرعان ما قرر سحب القوات جميعها من الأراضي السورية، وتوقيع معاهدة صلح مع الإنكليز الذين كان لليهود الحصة الأكبر بين مفاوضيها على أهوائهم يديرون دفتها.
طبعاً، بالرغم من استناد صاحب الكتاب الصحفي “لطفي آكدوغان” إلى وقائع تاريخية إلا أن الأمر لا يجعل من كتابه وثيقة تاريخية، أو مرجعاً معتمداً، فهو وإن كان استند إلى شخصيات حقيقية ووقائع تاريخية معروفة، لكنه أدارها في محيط من الحوادث التي جاورت الحقيقة حيناً وخياله أحياناً أخرى عديدة، متجاوزاً مهنة الصحفي، وبعيداً عن التأريخ أو التوثيق، الأمر الذي أوضحه الدكتور محمد محفل في بداية تقديمه للكتاب قائلاً: “استرعى انتباهي العنوان: سارة التي هدمت الإمبراطورية العثمانية، فنحن كطلاب تاريخ لا تستهوينا عناوين كهذه، فمن هو العملاق الأوحد القادر على بعثرة إمبراطورية مترامية الأطراف”، مبدياً العديد من الملاحظات ومصححاً العديد من الأحداث الواردة فيه، لكن الأمر لا يمنع قراءة الكتاب بالرغم من مرارة الوقائع التي انتهينا إليها، ففيه نوعاً من جرس تنبيه كي تتفتح العيون والأبصار من خلال استعادة قراءة الحدث التاريخي حرصاً على عدم عودته واقعاً مرة أخرى.
بشرى الحكيم