ثقافة

عظام “كيروساوا” المرتجفة

تمّام علي بركات

“أما بالنسبة لنا، نحن الشعب الجريح، فالحرب ما زالت قائمة. كانت الحصيلة التي أُعلن عنها رسمياً لضحايا الهجوم النووي على هيروشيما وناغازاكي هي 230 ألف  ضحية، لكن العدد الفعلي تجاوز النصف مليون. وحتى يومنا هذا ما زال هناك 2700 مريض في المشافي ينتظرون موتهم نتيجة الآثار الارتدادية للإشعاع بعد أن عانوا الأمرين طوال 45 عاماً. بمعنى آخر، ما زالت القنبلة الذرية تقتل اليابانيين كل يوم حتى الآن. كنت لأتقبل كل هذا كجزء من المأساة الحتمية التي تولدها الحروب لو أن البلد الذي أقدم على إلقاء تلك القنبلة تقدّم على الأقل بالاعتذار إلى الشعب الياباني. ولن تنتهي هذه المأساة إلا بحدوث ذلك”.
هذا كان جواب المخرج الياباني العالمي “أكيرا كيروساوا” 1910-1998- على السؤال الذي وجهه إليه الروائي التشيلي العالمي “غابرييل غارسيا ماركيز” 1927-2014- في الحوار الذي جمع الصديقان عام 1990، وفي الواقع يستحق هذا الحوار أن يكون موضوعا تدريسيا في المناهج التربوية الأدبية، لما يحتويه من قيمة فنية وفكرية عالية، ولما يوحي به من أفكار تحرض الخيال على ما يجهل الخوض فيه، لكن الفقرة التي أوردتها في مطلع الزاوية، هي للحديث في شأن آخر، لا يمر عليه مرور الكرام عندما يتفق في شأنه أهم أديب وروائي في القرن العشرين، مع واحد من أهم المخرجين السينمائيين العالميين، الاتفاق الذي يمكن تلخيصه بالقول: “كم هي رخيصة الشعوب في الحروب، أنهم آخر ما يتم التفكير فيه ولا يعنون في كثير من الأحوال إلا مزيدا من الخشب للمحرقة”.
لكن عظام السيد “كيروساوا” لن ترتاح في قبره، فشعبه لا زال يُقتل بالقنبلة الذرية حتى اليوم حسب ما جاء في حديثه، الاعتذار لم يحصل حتى الآن، حتى أن أوباما وبزيارته إلى اليابان رفضه رفضا قاطعا، معتبرا ما جرى من طبيعة الحروب! وحتى اللحظة يرفض “الكابوي” الأمريكي الأرعن، أن يعتذر لإبادة جماعية قام بها بحق أبرياء، ليست هي الأولى في تاريخه الهمجي، ولن تكون الأخيرة، ويده الغارقة في دم اليابانيين، عادت وغرقت في دم الفيتناميين، وبعدها في دم العراقيين، ولم ولن تعتذر عن كل تلك الجرائم الدموية التي ارتكبتها، فهذه ليست ثقافتها، وليست ثقافة الشعب الأمريكي الذي يدعو ظاهريا للديمقراطية في بلدان العالم وهو يعلم علم اليقين، أن وقود سيارته مثلا، التي يقودها إلى عمله في الطبيعة، لحماية بعض الحيوانات من “الانقراض”، هذا الوقود تم دفع ثمنه من جثامين أطفال اليمن المتفحمة بالسيفور الديمقراطي، الممزقة بصواريخ التوما هوك الإنساني، وألعاب القنابل الفوسفورية البريئة!، كما تم دفع ثمن سابقه، من أجساد أطفال العراق ودماء ناسه وعذاباتهم التي ملأت الأرض والسماء، وهو أي الأمريكي عموما، وحسب وعيه الجمعي وثقافة شذاذ الآفاق الذي هو حفيدهم، -شذاذ الآفاق الذين شكلوا فيما بعد عصابة، ثم صارت عصابة على شكل دولة-، لن يقبل ولا بأي حال، أن لا يجد وقودا لسيارته، فهو يريده ولو أخرجته حكومته من أكباد الشعوب المستضعفة وأفئدتهم، ولسوف يقف وينظر إلى جرائم “زعران” البيت الأبيض الآن وهم يقتلون بكل دم بارد.
ستبقى عظامك ترتجف في قبرك يا صديقي النبيل، فالضباع لازالت على حالها، مرتدية بزتها الأنيقة وربطة عنق حريرية، ومن أفواهها تفوح رائحة العفونة والموت، بينما مخالبها متوارية في ظهر الضحية!.