قصّة قصيرة.. شـــــكر!
لم أرفع رأسي لأعاين أرتال السيّارات أمامي، ولم أخفضه، كما طلب من أراد فعل ذلك من خلفي، ولم أكرّر النظر في ساعتي، كما يفعل جاري؛ حتّى التأفّفات التي تردّدت، لم تشغلني، ولم أشارك مطلقيها المحتشدين في ما تبقّى من فراغ بين المقاعد المتراكمة؛ ليس لأنّ وقتي مفتوح، وغايتي من هذا المشوار لا تتوقّف على وقت وموعد ودوام؛ فأنا مغموم أكثر من أكثرهم ربّما، والجوّ قارس كئيب، من دون أن أقلّل من متاعبهم؛ فجميعنا في الهمّ مواطنون!.
الحافلة تزحف بإيقاع رتيب؛ كما الآليّات الأخرى، تتحرّك بعد وقت يتأرجح طوله، بمقدارٍ، يتعلّق بنوع الآليّة التي تعبر الحاجز، وتمضي مرعيّة بعينِ الله؛ كما تقول عبارة على خلفيّةٍ أمامنا؛ أمّا إلى جوارنا، فالسيّارات تكاد تكون نفسها في مسارنا المتواتر بالإيقاع ذاته؛ فيما كان الماضون سيراً على أقدامهم زرافات على الجسر الطويل البعيد، الذي يقترب.
هناك ماشون آخرون يقطعون المعرض الآليّ هذا عرضاً، لا يلبثون أن يتبعثروا حول الكتل المعدنيّة، التي لا تترك فراغاً يتّسع لابن آدم، ما يضطرّ أحدهم إلى أن يقفز بين سيّارتين جوارنا؛ مستعيناً بمقدّمة إحداها؛ لكنّه لم يتوقّع الصفعة على مؤخرة عنقه من السائق، الذي خرج محموماً، ولم ينتهِ العراك إلّا بزئير المنبّهات، التي انطلقت من خلفنا؛ لضرورة التحرّك، بعد أن تقلقلت “الصفيحة” التي تحمل العناصر كلّها، وسائرون أُخر، ينضمّون إلى هؤلاء القاطعين، ينزلون من حافلات عديدة في هذا الركب المزمن، ولا يعودون!
حتّى ليبدو المشهد كيوم الحشر، مثيراً لمن لا يزال قابلاً أن يثار، وخانقاً لمن غصّته لا تجتاح فتحاته كلّها.
الحركة الوئيدة تتكرّر، والتمتمة والحركات تزداد. السائق يتبادل الشجار مع الركّاب، والمشاكسةَ مع زميله في سيّارة أخرى، يتواكبان، ويتناكفان:
-لماذا لا تدبّر رأسك، وتذهب على خطّ الإسعاف؟!.
-لو كان الأمر يتعلّق بالإسعاف، ما وقفت هنا، وكلّ من معي يحتاجون إلى إسعاف؛ والسيّارات التي تعبر، هل كلّها عسكريّة أو إسعاف؟!
-طيّب، نمرة مختلفة، هويّة غير شكل، مهمّة.
-لا حبيبي؛ حتّى هذه غير ضروريّة، انظر إلى من يمرّ، لست جديداً على المهنة؛ ما راحت إلّا على هؤلاء المعتّرين، معي ومعك!.
-وما الذي يربطنا بهم؟!.
-أوّلاً: أنا نظامي.
-وثانياً عندك، يا أيّها النظاميّ، تساوي أوّلاً عندي: نشتغل لنأكل، برغم القذائف والقنص والحواجز. لن نقعد في البيت.
-هذا الخروج من البيت لوحده مشاركة حقيقيّة في المواجهة؛ لأنّهم يريدون أن نبقى في البيت، نتحسّر، ونتلاوم، ونتذكّر.
-والحال في البيت ليست مريحة يا صاحبي؛ اسألني أنا!.
تحرّك قبل أن يسأله ويجيب.
لكنّني أستطيع تصوّر الحال، لو يسألني أشرح له.
ابنتي تركت بيتها، والتجأت إليّ مع بناتها الأربع؛ لأنّ الأوضاع في منطقتهم غير مستقرّة، زوجها عسكريّ لا تراه إلا نادراً. كذلك هي حال ابني، زوجته عندي وأولاده الثلاثة؛ أمّا أخوه، فقد التحق بالدفاع الوطنيّ بعد استشهاد أخيه، لم يترك سوى ولد وأمّه!.
هذا ما يخفّف عني؛ ابنه بين يديّ، فيما لو كان البيت يحتمل؛ لكنّني أضعه عندي، وزوجته هي الهمّ الذي أسعى من أجله، وأجدني مضطرّاً إلى الخروج من أجل الحصول على وثيقة استشهاد، وأخرى تثبت أنّنا لم نستفد من إمكانيّة التوظيف؛ صحيح أنّ الخروج من البيت يشكّل لديّ متنفّساً، على الرّغم من الطقس البارد المتواصل منذ أيّام، بلا أيّ دفء، حتّى المشاعر والرغبات تكاد تتجمّد؛ فالمكان لا يتّسع لأنفاس الجميع، لا أحد منهم يستطيع الخروج حتّى إلى الشرفة، لو كانت موجودة؛ فنحن في قبو لا نكاد نتبيّن ملامح بعضنا بعضاً. وهذا حسن أحياناً، ماذا يمكن أن تلاحظ؟! أليست تقطيبات الكائنات جواري، وفي الطريق أمامي أفضل تعبير عمّا يحدث للكائنات في هذه المدينة، وهذا البلد؟! بعد أن كنّا ننعم بما يصعب تصوّره الآن؛ بل إنّ ما يحدث كان من المستحيل تخيّله، ولم نكن راضين!.
صحيح أنّك لست على عجلة من أمرك؛ فالشهيد لن يعود إلى الحياة، والوثيقة لن يفوت وقتها، ومن في بيتك منشغلون عنك؛ ربّما يتدبّرون أحوالهم، ومرتاحون لغيابك؛ فوجودك يتطلّب ترتيبات مختلفة، على الرّغم من أنّك لا تلحّ في الطلب، وتتجاهل المطالب والمشاكسات والعراك، وقد تتدخّل حين تتأزّم الأحوال؛ لكنّك ستعود، وتجد الملامح ما تزال متلبّدة. متأكّد من ذلك؛ ألهذا تتمنّى أن تتأخّر، ولا تقلق من التعثّر على هذا المعبر، على المعابر الأخرى؟! ولكن، إلامَ تتأخّر؟! أنت تعرف أنّها حال البلد والظروف غير الطبيعيّة، والأوقات الاستثنائيّة، وأنّ الحواجز شرّ لا بدّ منه، لتخفيف احتمالات التخريب والتهريب والتفجير، ممّن يتسلّلون من هنا أو هنالك. كنتَ عسكريّاً، وتعرف، وحزنت حين لم يقبلوك في الدفاع الوطنيّ، وقلت: هل صرت بلا نفع؟! ألم أعد قادراً على حمل السلاح مثل الكثيرين؟! أنا أريد ذلك.
يخفّف عنك الضابط المسؤول: نشكر حماستك؛ لكنّنا غير محتاجين إلى أمثالك؛ أقصد، إلى من هم في عمرك؛ أقصد: إلى اختصاصك!.
قال هذا بارتباك؛ لم تذكر له اختصاصك، ولم يسألك عنه؛ ثمّ.. أليس هناك حاجة إلى الحرس، إلى الإسعاف، الإمداد…؟!.
آه؛ أتمنّى أن يكونوا غير محتاجين إليّ… حقّاً!.
لكن.. ماذا لو وقفت على الحاجز؟! هل سأتصرّف مثلهم؟! أهتمّ بهذا، وأستهين بذاك؟! أمرّر من لديه خصال لا أملكها، ولا يملكها كثيرون، أطبّق النظام بحذافيره عليهم؟! هؤلاء أمثالي هم الذين لديهم مطالب واحتياجات لا تنتهي، وأولادهم مشغولون في الجيش أو المؤسّسات الأخرى، لا يعطّلون، ولا يضيعون أوقاتهم إلّا على الحواجز. وأولاد أولئك لا يخدمون، وأوقاتهم ملكهم!.
هل أنزل لأقول لهم ذلك؟! وأذكّرهم بأنّني والد شهيد أكيد، وأكثر من شهيد محتمل؛ هل هذا يؤمّن انتقالي السلس؟! ومن الذي سيقلّني؟! وهؤلاء الذين يملؤون المقاعد والفضاءات بينها، من يبقى منهم؟! كيف سيعبرون؟! وهل سيستمع إليّ الواقفون على الفتحة المديدة الضيّقة؟! أعرف أنّهم من أبناء آدم، ومن لحم ودم، ولديهم ظروف وعائلات وحاجات، وهم معرّضون للبرد الذي يقصّ المسمار، والقذائف التي تقطع كلّ شيء؛ قد تخطئنا؛ لأنّنا سنعبر؛ أمّا هم فهدف ثابت، ودريئة واقفة!. وعليهم أن يدقّقوا، وأن يتحقّقوا من المارّين، وما لديهم؛ فهل ألومهم؟! أم ألوم الحال والظروف والأعداء؟! لقد طال الوقت، ولم يتثلّم، برغم تزاحم الحزّ والتقطيع؛ كالسيف الذي عاد السلاحَ الأكثر رواجاً بعد كلّ تلك السنين، ولا بأس بثلومه التي تطيل العذاب، وتزيد المَرار؛ فهل أنزل لأمشي، وأسلّم عليهم، وأشكرهم بكلّ أحاسيسي؟! أم أنّ نزولي لا يحلّ مشكلة الآخرين، الذين حالهم كحالي، أو أسوأ ربّما؛ إذا كان بينهم من فقد أكثر من شهيد وبيت ومستقبل!.
غسّان كامل ونّوس
من مجموعة قصصيّة بالعنوان “تعويذة”، تصدر قريباً عن اتّحاد الكتّاب العرب