الشعراء يكتبون والنقاد غائبون
ما الذي حلّ بفكرة النقد. كثرت القراءات وقلّت الفائدة، فالكتاب الجديد مناسبة لعقد مباريات بين متبارين هم اللاعبون والجمهور معاً، ما خلا قلة من أهل الاختصاص. فالشعر مناسبة للقول ورطانة (وأحياناً تصفية حسابات بين أشخاص). ما إن يصدر الشعر في كتاب حتى تنهمر المقالات عنه هنا وهناك في الورق اليومي السريع الأكول. يمتدح الشاعر أو يهان، لكن القصيدة تبقى مجهولة ويتيمة. لم يقربها أحد، لم يُحببها أحد، ولم يكرهها أحد، كأن لا شأن لها، أو معها، فهي ليست موضوعاً. وما الشاعر في هذا المعرض غير وصي أناني على طفل غني غفل عنه الجميع، والتفوا (أو اختصموا) من حول الوصي وعليه.
لا وقت، إذن، للقصيدة نفسها بما هي كينونة قائمة في ذاتها، إنها في أحسن الأحوال، كائن مهمش، فما تستمد وضعها إلا من وضع شاعرها، فلا مصير لها إلا ذاك الذي ترسمه لها مكانته في مجتمع تتيه كثرته بالشاعر الذي يجعل من قصيدته شرفة للخطابة، وتنشغل نخبته بالانقسام من حول الشاعر الذي يجعل من قصيدته شرفة للتأمل الفلسفي، وفي كلا الحالين نحن إزاء القصيدة الغائبة والشاعر الذي يحضر كثيراً، يحضر ويجعل من قصيدته مقراً. فإذا كان قوياً، واسع النفوذ، رفلت قصيدته في حلة براقة، غالباً ما تكون فضفاضة عليها، وتخاطفت مرورها الأنظار، ووجد الناظرون إلى هيئتها في لحظة الانخطاف، ما ليس فيها هؤلاء أنفسهم سوف لا يرى الوهج في قصيدة طليقة قُتل شاعرها ودُفن فيها.
الشاعر ثم الشاعر، ثم الشاعر، ثم القصيدة، لو ظلّ هناك وقت!
الشعراء يكتبون عن الشعراء، لا بأس، فالنقاد غائبون، لكن الشعراء قلما يكتبون عن القصائد. إنهم يكتبون عن المخيلة، وإذ هم يقفون على مواطن الجمال في قصيدة يقصرون كلامهم عليها، فنظن النص باهراً كلّه، وأحياناً يتصيدون خللاً فلا نعود نرى في كتابتهم إلا صورة الخلل، هكذا هم الشعراء متطرفون، باستمرار.
“الشعراء دمروا الشعر مرتين مرة بكتابته ومرة بالكتابة عنه”، هكذا يرى بعض النقاد، شيء من هذا صحيح، وأكثر غلط فـ “النقاد ينامون وتطول نومتهم في العسل، وما يصحو واحد منهم إلا ليلتقط الشوارد” كما يرى الشعراء، وهذا أكثره صحيح.
فالناقد يصحو ليزين بالأضواء “شرفة الشاعر” الذي هو (تحرير) بلغة النقد الإصلاحي و(مخترق) بلغة النقد الحداثي، فهو السوبرمان في الحالتين. ولا ضير أن تكون القصيدة مروعة بدلاً من أن تكون رائعة، فالمقصود في النهاية هو الشاعر، فهو الأب، أما القصيدة فهي لا تعدو أن تكون ابنته. والدليل القاطع على قدرته على الإنجاب!.
وبهذا المعنى فإن المخيلة بدورها، هي امرأة غامضة في بيت بعيد عن الأنظار فاضلة محتجبة، متمنعة، غير مسموح بزيارتها حتى للأقربين. تمتدح فقط، ولكن بحرمة أيضاً. ويدور الكلام النقدي عن فضائلها، من دون أن يسمح بالاقتراب منها، إلا للخلصاء، في رفقة الشاعر، وتحت نظره، فالمخيلة امرأة، لكنها امرأة كونية، غير مسموح لها بالثرثرة. ويا لسوء حظ قارئ إذا قرأ وكسر القاعدة، إذا تجرأ على مخيلة الشاعر فانتهك حرمتها، وفك شيئاً من ألغاز تمنّعها!.
إنها الأبوية إذن، لا في الإيديولوجية وحدها، وإنما في الشعر أيضاً من هنا نفهم انسحاب النقاد خشية السلطة الإعلامية للأب الشعري، وتجنباً لوجع الرأس، وتحالفاً معه أحياناً على سبيل الانسجام والتقليد والتناظر فالأب الشعري يستحسن أن يقابله أب نقدي، من قماشته ومكانته يتبادلان الصداقة ويقتسمان القوة ويحميان معاً صورة الشاعر والعرف التراتبي في الشعر.
د. رحيم هادي الشمخي