ثقافة

“نزار صابور- الإنسان- اللوحة”.. توثيق لذاكرة تشكيلية سورية

غالباً مانقرأ اللوحة التشكيلية بأسلوبية الفنان وتقنياته وألوانه، شغفه بالفن وعشقه له، لكن قراءتنا هذه تحمل في وجهها الآخر قراءة إنسانية لذاتية الفنان وتجليه الوجداني لحظة انفراده مع لوحته،  كيف تتألق روحه بالقلق والنزق لتنجز إبداعاً مشغولاً بمداد الحياة؟. هي لحظة البوح التي يتماهى فيها الفنان مع لوحته ليتحول هاجسه وانفعاله لحالة تعبيرية تتناغم مع رؤيته الفنية وتعبر عن توقه الذاتي في التألق الروحي. وهذا مااشتغل عليه الناقد والإعلامي سعد القاسم في كتابه (نزار صابور- الإنسان- اللوحة) حيث يعرض ويوثق لتجربة فنان تشكيلي يمثل علامة فارقة في الفن التشكيلي السوري والعالمي، وإن جمع المؤلف لصفتي الفن والإعلام أعطيا الموضوع حالة من المصداقية بأسلوب سلس وشفاف ودراسة معمقة لهذه التجربة.

تبويبات
تضمن الكتاب عناوين متعددة بدأها المؤلف بإهداء لأسرة الفنان صابور وأسرته وروح المعلم فاتح المدرس وإلى فنانين قادمين غداً، ثم انتقل إلى المحتوى وضمنه: تمهيد- سيرة فنية- بمثابة التقديم- نزار صابور الإنسان- اللوحة- قراءة في ست لوحات- ذاكرة الصور- هوامش- المؤلف.
في “التمهيد” يقول المؤلف: “على مشارف عالمنا الجامعي التقيت نزار صابور للمرة الأولى، ولم يكن لهذا اللقاء أن يتوقع مجيء يوم أكتب فيه عن نزار، وعلاقته مع الألوان والخطوط، وأساساً عن امتزاج المعرفة والخيال والدأب، ذاك الاتحاد الذي أتاح لتجربته أن تكون على ماهي عليه اليوم.. ترافقنا كزملاء دراسة وأصدقاء حتى تخرجنا من الكلية مطلع الثمانينات ونمت صداقتنا بعد ذلك رغم اختلاف طريقينا في الحياة. استغرقت أنا في العمل الصحفي واستمر نزار في الدرب التشكيلي”.
ثم يعرض المؤلف لسيرة نزار صابور في عناوين محددة، وتواريخ ومراحل متعددة تغطي أنشطة نزار صابور ومشاركاته الفنية داخل سورية وخارجها، ومجموع الجوائز التي حازها عبر مسيرته الفنية.
ومن يقرأ تراتبية مراحل تجربة الفنان صابور كما تناولها المؤلف يلمس أن الفن ليس له حدود ويستوعب حالات إبداعية كثيرة، فقد يضيق العمل الفني الذي ينجزه الفنان عن استيعاب قلقه وانفعالاته فيتحول إلى منجز آخر، حيث تتوضع في الأعماق مستويات متعددة، وتنقلب حساسيته ومزاجيته لدرجة قد يحجم عن أي عمل أو تصرّف، والفنان التشكيلي مثل أي مبدع يتزود بالطاقة من المجتمع أو المحيط كالطبيعة، فيعيد صياغتها مرة أخرى ليطرحها للمتلقي، وهذا ينطبق على كل عمل فني.

لغة اللون والموسيقا
ويأخذنا الكاتب إلى مطارح دقيقة وحميمية في تجربة نزار صابور يرصد علاقته مع لوحته، عبر انفعاله وتفاعله الذي يجسد حركة الإحساس الباحث عن ذاته وعن سواه، ومع أهمية الانفعال كمدخل للفنان إلى عالمه، إلا أنه ليس الغاية النهائية التي يرجوها الفنان، بل إنه وبمجرد مسك فرشاته يحوّل انفعاله الذي هو حالة مؤقتة إلى فعل دائم بإنجازه للوحته التي تمثل قصة بلغتها الخاصة، وقصيدة بألوانها، ولحن جميل بما تتركه من أصداء، فتطرح عبر خطوطها عالماً “متكاملاً” من الإيحاءات والرؤى القادرة على اختراق زمانها ومكانها وموضوعها الأول.

بوابات الروح
ويقارب المؤلف أفكار الفنان صابور فيعبر عن رؤيته لتجربته بعبارات تحلّق في أفق الفن التشكيلي، في خطوطً ومساحات وألوان تشكل بوابات للروح، ترانيم وقصائد تلون لحظات الحلم لتنهمر الروح على مساحات اللون تؤكد حالة الحضور من خلال البحث عن قيم وإيهامات الخطوط، ليأخذ الشكل احتمالاً آخر عبر تحولات الزمن. وهذا كله ليس إلا البداية في بحر من الرغبات للبحث عن حالة الخلاص، خلاص الروح من تأويلات الغياب، والإنسان منذ بداية الخلق كان ومازال يبحث عن مساحات أكبر من أجل التواصل مع هذا الكون من خلال البحث والتجربة وامتلاك حالة من الوعي لقيم الحق والجمال، وما لحظات التجلي والانصهار إلا حالة انفلات من القوانين للوصول إلى حالات تتسم بالحرية، وتحمل ومضات إبداعية.

سعادة ماأمكن
ويتابع المؤلف رصده لتجربة الفنان صابور ليحدثنا عن معرضه الذي أقامه في  صالة الآرت هاوس بدمشق عام 2007 تحت عنوان “سعادة ما أمكن” وقد اختار اللون الأبيض لهذا المعرض لما له من علاقة دلالية بموضوع السعادة وليتابع من خلاله بحثه في القوة التعبيرية للون الواحد، ويتطرق المؤلف للتقديمين اللذين تضمنهما دليل المعرض الأول بعنوان “سعادة ما أمكن” كتبه الفنان نزار، والثاني بعنوان “قلق ما أمكن” بقلم المؤلف، ويمثل التقديمان وجهتي نظر الفنان والمتلقي في المعرض ذاته، فيقول نزار: في بحثي القديم- الجديد عن السعادة التي وعدنا بها، ونعد بدورنا أبناءنا.. هي “هوس” لاحدود له ولاوقت.. يأخذك.. يأخذ مقدرتك إليها.. اللوحة.. السعادة.. هل يمكن أن تعبّر عنها بشكل أو بلون أو برمز؟ هل يمكن أن تراها على قماش اللوحة.. دون أن تعيشها.. هل نعيشها؟ أشهد بأني أحسها، وأني أحاول تجسيدها، وما أريد أن أقول لكم: انظروا كم هي واسعة- متشابكة. كم هي واضحة- مرتبكة، بين خشونة وجفاء المادة وتعبيرية اللون، بين رعشة أياد مفتوحة ودائرة سوداء، انظروا كم من مزاج يبحث عنها. كم من عمر ينتظرها. إنها السعادة.. سعادتي (أنا) بأقصى أبعادها.. ولكم انتم (سعادة ما أمكن).

قلق.. ما أمكن
ولأن الفن في انطلاقته الأولى من وجدان الفنان هو محاولات دؤوبة للتعبير عن مشاعر وأحاسيس طالما شغلت النفس البشرية وأشغلتها، أما في مرحلته المتقدمة فهو التعبير والبحث عن الحق، عن الحكمة، عن المطلق، عن الأسرار الكونية، في الشكل، لكنها تحمل في جوهرها ذات السيالة العصبية، أي في حالة إنجاز اللوحة”. فقد أورد المؤلف وجهة نظره تحت عنوان “قلق ما أمكن” استحضر فيه قول لـ “جان كوكتو” عن القلق الذي يجب أن يكون وسادة الفنان في سؤال وُجِه للفنان نزار الذي عقّب قائلاً: أؤمن أن الفنان هو من يصنع القلق.
ويؤكد المؤلف هذا الكلام بقوله: “نعم هكذا هو نزار في واقع الحال، يعيش قلق الباحث عن أجوبة أسئلة لاتنتهي، الموقن أن في سكون التجريب أو توقف البحث، أو مجرد تريثه، موت الإبداع”.
وفي موضع آخر من تقديمه للمعرض يقول الباحث القاسم: “في المرحلة الأحدث من تجربته يختار نزار اللون الأبيض أساسا لصياغة أفكاره وأشكاله، كاشفا بخبرته الثرية وبراعته كمصور وملون عن غنى هذا اللون الذي وضعه الفيزيائيون خارج عائلة الألوان. ينجح الأبيض، وبما يحمل من دلالات في التعبير عن السعادة (عنوان المعرض) ويلتقي بمظهره مع مفاهيمها السامية، فهو يجسد الصفاء والنقاء والطمأنينة، ويتقبل برحابة باقي الألوان حتى أكثرها تناقضاً معه، ومثلها انكسارات الضوء على السطوح البارزة، إنه في جوهره عالم من الضياء يشع في القلب قبل أن ينتقل إلى العيون التي ستكتشف في فضائه الفسيح عوالم الطفولة والقداسة والسحر الشرقي، وكل الأشياء التي أحببناها في عالم نزار صابور، ففي روح نزار المبدعة سباق دائم بين الفكرة والإحساس، أيهما سيصنع اللوحة، غالبا ما تفوز الأولى في البداية محددة الخطوة التالية، لكن حينها تسيطر الثانية على كامل الحالة. وربما يجيب هذا عن سؤال قد يراود القارئ: كيف يتفق الحديث عن السعادة، وقد اختارها الفنان عنواناً لمعرضه وهذا الحديث عن القلق”؟.
وفي “ذاكرة الصور” التي تضمنها الكتاب وثّق الكاتب بالصور للفنان وأصدقائه وأساتذته ومعارضة ولقاءاته، واستعرض ضمن صفحة “هوامش” أسماء الفنانين الذين عايشوا الفنان عبر تجربته، وخاتمة الكتاب جاءت بسيرة ذاتية وإبداعية للمؤلف.
لقد شكّل هذا الكتاب مرجعاً توثيقياً لتجربة الفنان نزار صابور يهتدي به أجيال اليوم في مسيرتهم الفنية والحياتية، ويؤسس لذاكرة تشكيلية سورية، وننتظر قراءات أخرى في تجارب أخرى لفنانين آخرين كما وعد المؤلف في إهدائه.
سلوى عبّاس