ثقافة

“في عينيك تمر غابة”.. القصيدة التي من حبر ودم

تبدو الحياة الشعرية التي شكلتها الشاعرة السورية رولا حسن- طرطوس 1970- في تجربتها الأدبية، التي امتدت زهاء العقدين، وكأنها دائرة وصفية كلاسيكية مغلقة، تعيد إنتاج نصها الراهني، وفق حالات شعرية أو ثيمات شعرية منجزة سلفا، النص الذي أعادت “حسن” صياغة رؤاه في مجموعتها الشعرية الأخيرة “في عينيك تمر غابة” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة -2016 ،لم يذهب بعيدا إن كان في أدواته أو أسلوبه وفي لغته، عما اختبرته الشاعرة في علاقتها مع الشعر- صدر لها ديوانها الأول “شتاءات قصيرة” 1997، لتجيء المناخات الشعرية في المجموعة الأخيرة، وكأنها ضربات جناح متكررة وقوية وثابتة لكنها مكتفية في محيطها الذي حلقت وتحلق فيه، حيث لا تكاد تنقضي أقواس تلك الدائرة من مواضيع وأسلوب وتقنية ولغة، حدث واختبرت رولا شعريتها معها، حتى تعود مرة أخرى لبداية دورتها الشعرية، التي تهز كيانها الحسي بين الحين والآخر، وكأن القصيدة هي أنثى مكافئة من حبر ودم، تكبر مع رولا وتدخل في صيرورة الزمن وتعاقب الفصول كما تدخل صاحبتها، حتى في إيحائها الفيزيولوجي وطبيعتها الأنثوية، ليأتي أثر هذا التيار المتناوب -إن صح التعبير- بين العاطفة والواقع، وكأنه ممعن في ترسيخ ما اختزنته الشاعرة بتجربتها الحياتية اليومية، والتي ستنفصل مرارا عن المعاش بتفاصيله الكاملة، لكنها لن تلبث أن تعود فتجعله مظلتها أو الحامل الضمني لحركة القصيدة بشكل عام في تجلياتها وانكشاف رحابتها على شكل خدعة! /الأماكن التي غادرناها مبكرين/ المواعيد التي فاتتنا/الحب الذي خسرناه/اقصد المدن التي ينهشها الموت/بأنياب من رصاص/اقصد يديك/اقصد بلادي. مقطع من قصيدة بلادي التي جاءت ضمن باب “أصوات” ونلاحظ في السياق العام للنص الذي يبدو شخصيا جدا، أن “الفاجعة” ربما يكون لها أثرها الحاسم في إعادة إنتاج علاقتنا كبشر، لهم إرثهم الثقيل من الحزن، مع الكلاسيكيات – الوطن- الهوية- الموت- الخ، فعلى ما يبدو أن هناك ثوابت حياتية إن صح التعبير لا مفر من العودة إليها ومحاولة فهمها مرة أخرى، رغم أنها ما زالت مستمرة في سياقاتها العامة، منذ العصر المسمى ظلما “جاهلي” حتى اللحظة، الأمر الذي يبدو جليا في العناوين العدمية التي حكمت القسم الأول من المجموعة “أصوات” على شاكلة “حياة فارغة كطبل- ذئاب الظل- رصاص يخطئنا” ومن ثم تقوم رولا بقطيعة بائنة مع تداعياتها السابقة في المجموعة، لتأتي القصيدة التي حمل الديوان اسمها “في عينيك تمر غابة” وكأنه وصايا موضبة ومتقنة ومحسومة بحد السيف والندم “توهمي شجرة/توهمي رجلا/توهمي مطرا” مع التعليل الأنثوي الخبير لكل وهم، وهو ما ليس بمستبعد عن طبيعة الشعر، في كونه “شكاك” وقلق ومتوجس أيضا، فـ “ليس من السهل أن تنتظري خلف الباب/بينما أحد يدير المفتاح/ثم يترك وردة في القفل/ويمضي”.
إلا أن القسم الثاني من المجموعة والذي يحمل عنوان “اعتراف” ففيه تستعيد صاحبة “نصف قمر”– 2008-عافيتها وقدرتها على التحكم بالمنطق الشعري المتوزان لقصيدتها، التي جاءت هنا كجمل رشيقة ومتلاحقة، لكنها واثقة “عليّ الاعتراف أن الأيام رست/كمراكب خسرت موانيها/وأن الحب كان قاسيا كحرب”. فالحياة الحقيقية التي تمر في الشارع والمقهى والبيت والمدرسة والسرير، هي في الحقيقة المرجعية الخصبة للشاعرة في تشكيل نصها بوعيه المنفتح أو المتصالح مع عقده، أو المكتفي بعيوبه وكأنها من عيوب الطبيعة أيضا، هذه المرجعية الظاهرة كشريط سينمائي شعري سريالي، هي من سيعطي لناظرتها طريقتها في إعادة قراءة العالم وتصدير هذه القراءة له، على شكل مقاطع شعرية، تحكمها الدفقة العاطفية المكثفة، التي تطلقها صاحبة “حسرة الظل-1999” في صورها الشعرية وتراكيبها اللغوية ومحاولتها تجنب الألغام الزمنية والعمرية، لتنجو من التنميط والتكريس.
ديوان “في عينيك تمر غابة” جاء وكأنه محاولة لاستعادة لحظة مضت، بأدواتها القديمة أو الكلاسيكية ذاتها، تحت ضغط ثقيل الوطأة، لعالم تغير دفعة واحدة، وانتقل من كونه ابن الحياة وأبيها، إلى كونه عالم التكنولوجيا المريع هذا الذي لا أب ولا هوية له، عالم يبدو أنه لم يعن للشاعرة، إلا كونه واقع حال سيء كما المرحلة، وهاهي تقدم شهادة إبراء منه، جاءت بلغة حسية عالية لكنها لم تتجاوز ذاتها، ونبرتها المتواترة لم تتغير نوتاتها وإيقاعاتها عما سبقها من مجموعات شعرية، حتى أدوات الشاعرة وتقنيتها في الصور الشعرية المركبة التي تبدو وكأنها تفصيل من لوحة لـ “سلفادور دالي” “اقصد يديك، اقصد السرخس الذي نما في ظلالهما على جسدي”.
المذهب التعبيري -البصري اللغوي السريالي- الذي بنت “رولا حسن” وفقه علاقتها بما حولها وداخلها من عوالم موجودة ومخترعة، هذا المذهب المنتقى بعناية، لا يسعى لأوهام فائضة عن الحاجة ولا لكسر تقليد هنا أو قاعدة هناك، بقدر ما هو محاولة عند الشاعرة للحفاظ على الحركة في حالة مستمرة من الحركة، حتى ولو كانت مراوحة في المكان، فكل لحظة قادمة هي استعادة للحظة مضت، وما بين اللحظتين تبقى الروح الشفافة للشعر، هي من يقول متى على هذه الحركة أن تغير مسارها أو تهدأ، أما في “في عينيك تمر غابة” فهذا لم يحدث بعد، والصوت ما زال هو الصوت نفسه، حتى لو كانت تلك الحشرجات، تنبئ بغصات لم تخرج من الوجدان بعد، رغم ضربات الحياة والخيال الثقيلة والمرهقة.
“بلاد/مدينة مدينة زرعناك على الشرفات/شارعا شارعا حفظناك غيبا كنشيد مدرسي/رصاصة رصاصة أفرغنا حقدنا في صدرك”.
تمّام علي بركات