ثقافة

حـكـايـات سـوريّـة فـي الـحـرب

تخرج فيروز من بيوت السوريين صباحا، وكأن لا شيء حل بالبلاد، وما هذا الذي لا اسم له، والذي يحدث وهو يبعد عن عتبة بيوتهم بضعة أمتار قليلة، إلا حلم بغيض، ابتعد عنه فقط ولو لخطوات، تنساه، منذ أكثر من ثلاث سنوات، أجابت فتاة صغيرة على سؤال أحدهم عن مكان والدها الشهيد، أين هو؟ فقالت له بكل براءة الأطفال وصدقهم: ذهب إلى الحرب. اليوم وبعد ثلاث سنوات وبعد أن وعت الصغيرة المكان الحقيقي الذي صار فيه طيف من أحبت ولاعبت وتدللت في أحضانه، إلا أن جوابها لم يتغير، ذهب إلى الحرب، لكنها هذه المرة تقولها وملامحها أكثر حدة، حتى أن تغضنا صغيرا بدا في جبهتها الطفلة، أبداها وكأنها عجوز في عمر العشر سنوات.
اليوم كانت أغنية “رجعت الشتوية” تذكر الجميع أنهم على موعد مع شتاء قاس قادم، لكن أحدهم لا يريد أن يفكر في هذا الآن، فيروز تغني والقهوة والمتة والشاي، تغلي، وهذا ما يهم الآن، بعد إيفاد الأولاد إلى المدرسة، والانتظار على جمر لا يخف وهجه إلا عودتهم إلى البيت بخير.
رباه ماهذه الحرب؟ وكأنها طاحونة عملاقة من حديد ثقيل وشفرات حادة ونصال دوارة، تطحن كل شيء، تطحن الأرواح والأسماء والبيوت وحتى الذكريات، إلا أن حكايات صغيرة لم تكن لتعني شيئا فيما لو وقعت في زمن سابق على زمن الحرب التي صارت اليوم بالعمر الإلزامي للذهاب إلى المدرسة في مدارس الجمهورية العربية السورية، حسب قانون التعليم الأساسي للذهاب، هذه الحكايات صارت هي تفاصيل الحياة اليومية ونكهتها المائلة للحزن، والناس بجميع ألوانهم، هم أبطالها العتاة، إنهم أبطال القاع حسب “باختين” وهم بحاجة إلى أن يسلط عليهم الضوء فقط، ليكونوا هم الأبطال الحقيقيين في الحياة، وما يقع لهم، هو الحقيقي والذي يمكن اعتماده كمرجعية للتدوين فيما بعد، في حين ماتت الحرب وبدأ التاريخ يحكي حكايتها بوجهين منفصلين ومختلفين تماما، رغم العناوين العريضة المتفق عليها من قبل الجميع.

الوحدة والجميع والمنديل..معا
الرجل الذي لم يغير سرواله ولا قميصه ولا حذاءه منذ أكثر من عشر سنوات، والذي يخرج كل يوم صباحا من بيته في نفس التوقيت السابعة والربع صباحا والذي صار حديث الجيران منذ فترة قريبة، كان يوما ما كما يقول الجيران، مديرا محترما لإحدى المدارس، ثم توفت زوجته فجأة، لم يبد أي مشاعر تدل على حالته، حتى أن وجهه بقي حياديا بشكل غريب وكأن من ماتت لم تكن رفيقته لـ 45 عاما، لكن الحياة توقفت به عند ذاك الزمان، هكذا ودون مقدمات مرضية نفسية كانت أم فيزيولوجية، فبقي معلقا في حبال تلك الأيام، ولم يغادرها، حتى أنه بقي بالثياب ذاتها التي كان يرتديها حينها، يقوم كل يوم بغسل ملابسه ونشرها ليلا، وفي الصباح يكويها ويرتديها ثم يخرج، حاملا عصاه ذاتها وعلى رأسه قبعة “روسية” ربيعية، ويقال أنه يمضي يوميا إلى مكان قريب من جامعة دمشق، يجلس فيه أكثر من 3 ساعات، ثم يعود إلى بيته، إلا أنه قطع العادة هذا الصباح أيضا ومنذ 7 صباحات مرت، لم تره الجارات وحتى البقال أبو محمود، الذي كان ما يزال يرد عليه السلام بـ “وعليكم السلام أستاذنا المحترم”، وفي الوقت الذي ظن الجميع أنه ربما توفي في بيته- هذا كان آخر ما خطر في بالهم- كما تقول السيدة سعاد، لكنها قالت فيما بعد، أن موته وحيدا في سريره البارد، هو أكثر ما خطر في بالها، حتى أنها بكت عدة مرات وهي نائمة، وعندما سألها زوجها لماذا تبكين؟أجابته عن هواجسها بخصوص الرجل المحترم، بقيت تعاني عدة ليال طويلة بعدها من غيرة زوجها الذي لم يصدق أنها لم تكن واقعة في حب المدير السابق، “لو رأيتموها تبكي بهذه الحرقة لقلتم مثلما قلت، كانت تبكي وكأنها ستموت بعد لحظة، والله اشتهيت أن أموت كرمى أن تبكي علي بنفس الطريقة” قال زوجها، الذي اعتذر فيما بعد لها، لكنها لم تقبل اعتذاره حتى اليوم، إذا في الوقت الذي ظن فيه الجميع أن السيد المدير السابق المحترم، قد توفي في سريره البارد وحيدا إلا من ذكرى زوجته التي رفض أن يعلق لها أي صورة في البيت، فاجأ صديقنا الصباح والطيور والجارات الثرثارات والرجل الغيور والبقال والطبيعة ذاتها تفاجأت، بخروجه على عادته الصباحية ذاتها بنفس التوقيت، دون أي تغيير في مظهره العام، إلا أن السيدة سعاد لاحظت أن ثيابه صارت فضفاضة جدا عليه، لكنها لم تقل هذا لأحد كي لا تعود للمعاناة من غيرة زوجها، الرجل كان يسير ببطء أكثر من المعتاد، وفي يده منديل أخضر مجعد جدا، يرفعه بجهد إلى مستوى أنفه، يشمه يقف قليلا ثم يتابع سيره، عرفت الجارات فيما بعد من أين، لا أحد يدري، أو ربما يكن هن من اخترعن الحكاية التي عرفنها، عن فترة غياب السيد المدير السابق عن عادته اليومية: يقال أنه كان قد استسلم أخيرا للموت وانتظره في سريره، لكنه استيقظ ذات صباح وهو يشعر بالنشاط، وفي يده كان ثمة منديل أخضر مكوي جيدا، تفوح منه رائحة بيت وعائلة وأولاد ومطبخ وزوجة حبيبة، لا أحد يعلم من أين المنديل جاء، لكن يتذكر السيد أبو محمود البقال، أن هذا المنديل غالبا هو المنديل الذي كانت تحمله زوجة المدير المحترم، والتي توفيت منذ عشر سنوات، حتى أنه أكد للجميع، بأنه شاهد زوجها يوم دفنها بأم عينه، يضع منديل زوجته في يدها المتيبسة، قبل أن ينهال عليها التراب.
تمّام علي بركات