ثقافة

النص والقارئ ..المعنى الذي لا ينضب

استلهام الإبداع هو جهد مشترك يجب أن يحمل عبئه المنتِجُ والمستهلِك معا، حيث يرى العديد من النقاد العرب والغربيين، أن القارئ مبدِع ثانٍ، أي إنه مبدع للنص بقراءته وتذوقه وتأمله، وكأن للنص فاعلين أو مبدعين، الأوَل تنتهي فاعليته بمجرَّد تصديره نصه، وابتعاده عنه، والثاني تتحدَّد فعاليته في أثناءِ كلِّ مقاربةِ قراءةٍ وبعدها، وكأن المتلقِّي بهذا التصوُّر هو البطلَ الحقيقي الذي يقتحم عالم النص ويواجه سلطته، لذا فإن مستوى قراءة نص إبداعي ما، يتنامى مع تنامي الوعي الفني ومثاقفته بالطاقة العارفة التي يتمتع بها القارئ الذي سيخوض في جدلية مع النص وعناصره بوحداته الصغرى المنجزة لوحدته الكبرى، وليقرأ الشبكة التأويلية النابعة من “الدال إلى دلالته”حيث لا مصبّ نهائياً في النص الإبداعي ، لذا فإن البعْد الجمالي للإبداع الأدبي يتوقّف على مدى قدرة متلقيه في فهم واستيعاب العمل الذي بين يديه، فلا معنى نهائياً لأي نص إبداعي، لأن لا قراءة واحدة له،فهناك الكيفية القرائية لـ (الكيفية التشكيلية للنص) أو لـ(الكيفية القرائية) السابقة عليه، وذلك تبعاً لطاقة هذا القارئ، ومهما كان موقعه من سُلّم القراءة، أي سواء أكان قارئاً عادياً، أم كان قارئاً نموذجياً، أم كان قارئاً مبدعاً، وفي أي فضاء قرائي كان، فلا بدّ له من ذائقة جمالية تشترك مع الكاتب في إنجاز النص، من حيث الإيغال في الرؤية الفنية وتركيبتها مع الشكل الذي يعني في النقد الحديث المواءمة بين الشكل + المضمون، وعلى هذا فإن العديد من المدارس النقدية التي تناولت هذه العلاقة بين كل من “المنتج الأدبي” و”متلقيه” ركزت بشكل أساسي على دور الأخير في هذه الدائرة الإبداعية إذا صحت التسمية، لإتمام ما بدأه الكاتب أو الفيلسوف أو الشاعر وغيرهم من المشتغلين في الحقول الإبداعية والمعرفية، من هذه المدارس الضاربة في القدم، المدرسة “الأرسطية”، حيث يعد الكثير من النقاد، أن السيد المحترم “أرسطو” هو الأب الحقيقي لفكرة “جمالية التلقي” لأن آراءه النقدية التي تضمنتها الكثير من أشعاره وأعماله ومنها كتاب “الخطابة والشعر”، شكلت اللبنة الأساس التي سعت مختلف مدارس النقد والأدب الغربية، إلى البناء عليها في توجهاتها الفكرية النقدية، ويذهب صاحب “الأخلاق والسياسة” مبلغا أبعد في هذا الشأن ليس بتسليطه الضوء على الأعمال الأدبية والفنية والاكتفاء بوصف أثرها على المتلقين أثناء تلقيهم للعمل الأدبي أو الفني فقط، بل في إيغاله عميقاً في “جوانيات” المتلقي، من خلال وصفه للأثر اللاحق لهذه الأعمال فيه بعد تلقيها، خصوصا عندما ركز على طبيعة العلاقة بين الدراما والجمهور، ويظهر ذلك جليا من خلال مفهوم التطهير، الذي يدفع المتلقين إلى إعمال الذهن، من خلال ممارسة لمقاربة ضمنية مع ما يتلقونه، تمنحهم نوعا من التوازن الأخلاقي، كما أن “المعلم” اهتم بثلاثة عناصر تحكم عملية التلقي وهي: النص والأديب والمتلقي، وأعطى لكل عنصر من هذه العناصر دوره الذي يتفاعل به ضمن هذه الثلاثية، ليقدم نظرية أرادها أن تكون شمولية، عن الماهيات والتغييرات التي ترافقها، عندما رأى أن “الماهية” ليست فكرا منفصلا عن الأشياء، والحقيقة كامنة في “المدرك الحسي” وتالياً فإن جوهر الشيء لا ينفصل عن تحققه المادي، الأمر الذي رفضه “أفلاطون” جملة وتفصيلا، وهو حديث آخر.
أيضا عالم اللغويات السويسري والأب والمؤسس لمدرسة البنيوية في اللسانيات ” دوسوسير” رأى أن اللغة في النص الإبداعي الحقيقي، تتحرر من “ملفوظها” الأول لتتحرك فيما بعده دلالات تدوم في الحركة والدوران والتغير والانزياح، لتظل في عالمها الغائم أو المموه، الذي يتفلت من أبعاده موسّـعاً تكويناته، ليساهم مع عوالم الدلالات الأخرى، في تشكيل الرؤية النصيّـة “المتماوجة” تحت اللغة أو تحت الكلام أو حيث لا تحت ولا فوق ولا جنوب ولا شرق، بمعنى أن لا جهة مكانية ولا زمانية محددة، الأمر الذي خاض به عدة مفكرين وباحثين لغويين من جنسيات مختلفة وفي أزمان مختلفة أيضا، منهم “الجرجاني” بتقفيه آثار الإبداع في المتلقي فيقول: (فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا، أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ فيقول حلو رشيق، وحسن أنيق، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف، وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده). أيضا “دريدا” الذي سماه “معنى المعنى” وهو شبيه مفهوم “فوكو”: (علائق الكلمات والأشياء)، وهو ما أراده “بارت” بحديثه عن “لذة النص”، وإن كان بتفاوت غير بنيوي في الدلالات والإيحاءات أيضا، هذا أيضا ما ذهبت أليه فكرة “جماليات التلقِّي” الألمانية التي تعد المتلقي ركنا أساسيًا في المعادلة الإبداعية إلى حدِّ الإيمان أن الكتابة الأدبية لا تكتسِبُ بُعْدَها الحقيقي بوصفها خطاباً فكرياً وجمالياً، إلا بمشاركة المتلقِّي في كل جيل وفي كل عصر، على عكسٍ المدرسة “الماركسية” التي تَعد نصوصَ الأدب مجرَّد مرآة عاكسة للواقع الاجتماعي، ولاسيما للصراع الطبقي، الذي ينبغي للمبدِع أن يُسخِّر فكْره وقلمه لرصده والدفاع عنه، وكبديلٍ كذلك للمدرسة الشكلية التي تنظر إلى النص الأدبي باعتباره نظامًا مغلقًا يتطلَّب فهمُه طرحَ كلِّ العناصر الخارجة عنه.
يقول الجاحظ : ” مدار الأمر على البيان والتبَيُّن، والمُفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل”  وهذا القول يدلُّ على إدراك الجاحظ لظاهرة التلقِّي ووعيِه بها، كما يدلُّ على أن عملية التلقِّي لها جذورٌ في التراث النقدي العربي، وأن النص الأدبي محوري وحواري في علاقته بالقارئ.
فلا حياة لنص بلا قارئ خلاق في إدراكه مراميه، ولا حياة لقارئ في نص لا يجيد فن تلقيه والتعبير عنه.
تمّام علي بركات