الــبــاب الــمــفــتــوح
على أنغام أغنية “تذكرين من كنت اشتكيلك آنا.. تضحكين من كنت اشتكيلك آنا”؟. كان الشاعر قاسم يحاكي السطور ويرجوها أن تصون اللحظة التي بناها شهقة شهقة!.
كثيراً مايصرخ ويدندن عندما يلقي قصائده وحيداً.. فلا يسمع سوى ارتطام صوته بجدران غرفته المتهالكة الممتلئة بصور الراحلين وبطاقات شكر وثناء على عطاءاته الشعرية.
حمل مرآته، رأى فيها موجاً حانقاً.. ومابين مد وجزر ماجت قصائده على كل البحور البائسة، وشرعنت معاني الحزن والغم… رأى في المرآة صورة حبيبته.. الحبيبة التي أذنتْ له بإفراغ حمولة عطفه في كنف ترقبها وانتظارها.
تتسارع الدقائق المتلاطمة مع كل همس نابض بين سطور شغفه.
كان قاسم يلتقي بها سراً عند بئر مهجورة، تتكئ عليها شجرة فقدت أعز أغصانها.. وحيدة إلا من بعض الذكريات المحفورة على جذعها.
– اقرئي حبيبتي.. اقرئي.
في تلك الدقائق المنداة بالقلق.. كانت تقرأ أشعاره وترتفع عن القاع.. هكذا أراد لها الشاعر.. هكذا أوصاها.. اقرئي بشغف وانهمري في سهوب اللحظ، فالفصول أنت ولدقات قلبي نجمة عالية لايطولها اسم ولا أعياد.. تختال اللحظة على إيقاع حروفها في كل حفلة إصغاء إلى فراشات كلماته التي لم تبرح ضوء حلمها.!.
يحتكمان عادة لتدفق النبض، يتسابقان لاقتناص بهاء الحكاية وتجلياتها!. وزادهما، الندى المخضب بالنقاء، والصباح المحمّل بالخيال واستعارات الشعاع!.
لم يكن لدى قاسم مورد رزق سوى “البسطة” التي يديرها بجدارة.. معارف وأصدقاء كانوا يترددون إليه لمساعدته فقط.. لم تترك له الأيام سوى حفنة ذكريات سوداء.. فأمّه التي ماتت أثناء ولادته.. ووالده الذي هجرهم وتزوج امرأة أخرى.. جعل العبء الأكبر على الشاعر بحكم أنه البكر.. تلك اللعنة التي سترافقه حتى مماته.
يرى نفسه ضحية كل شيء.. الأحداث حوله تحوم كالغربان.. وتتراكم عليه متطلبات الحياة القاسية.. حاول كثيراً تجاهل شتاء هذه اللحظات!.
صوت حبيبته “نجوى” يأتيه في كل وقت.. يسمعها تقول له: ألم يحن الموعد؟.
– نعم حان الموعد.. ولكن أمهليني فقط حتى آخر القصيدة.. لم يبق منها سوى رغبتين ونيف.
اليوم موعد الطلب الرسمي، ولكن المشكلة أنّ كل من بقي من أقربائه هم خارج أسوار مدينته البعيدة..
– سآخذ معي ديواني الشعري عربون لقائهم.. ربما تفرح عائلتها به!.
أغلق باب بيته، وانطلق.. كانت قدماه ترتجفان.. أصوات تتشابك في رأسه.. هدير مزمن.. يأخذ نفساُ عميقاً ثم يزفر.
خطوات تفصله عن بيتها.. يقف حائراً مرتبكاً.. يسقط الديوان من يده.. يلّمه.. فيسقط مرة أخرى.
يدقّ باب البيت.. يعرف أنها تنتظره، تفتح له الباب.. لم يتفوه بكلمة، قالت له الكل ينتظرك!.
دخل، ألقى التحية.. استقبلته العائلة، بدتْ عليهم علامات غريبة.. أصيب قاسم بالدوار، جلس، شعرَ بحصار عنيف.. عيون تترقب، هدوء مخاتل.
والد نجوى “أبو الوليد”” يسأله بعد لحظات: هات ماعندك؟.
قاسم: هذا ديواني!.
قهقهه أبو الوليد ساخراً: لم أسالك عن هذي “الخزعبلات”…قل ماعندك..ماذا تملك؟.
الجميع صمت. تلبدت سماء الجلسة.. خارت قواه..تكتكات الساعة أجفلته.
قاسم: أبيع الكتب القديمة بجانب المتحف الوطني!.
الوقت يمضي.. أبوا ب الشدة تفتح مصراعيها.. وكأنّ جبلاً من الثلج انهمر على صدر قاسم.
بعد حديث استمر نصف ساعة لم يشرب فيها القهوة التي قُدمتْ له.. سأل أبو الوليد: هل أقنعك الحديث يانجوى.. وهل أنت راضية.. أهذا هو مستقبلك؟.
نجوى: الكلمة لك.
كاد قاسم أن يفقد وعيه للحظات.. انحنت كلماته، خانته وخنقته.. طلب والد نجوى منه أن يأخذ الديوان الهدية،لأنهم لا يقرؤون الشعر.
عاد الشاعر مكسوراً ملطخاً بالخيبة.. هل هذه حبيبتي.. لا لا..أنا أحلم؟. أهذه هي التي كانت ترقص على أنغام كلماتي وإيقاعها؟.
مرّت الأيام، وفي كل دقيقة كان قاسم ينحت أغنية بقائه.. يسامر وحدته بالاستماع إلى أغاني سعدون جابر وتحديداً أغنية “يانجوى”.. لارتباط اسم الأغنية باسم حبيبته.
لم يمض شهر واحد، حتى جاء الفرج.. كفاح المغترب، ابن عم قاسم، يتصل به ويطلب منه أن يستعد للسفر إلى الخليج للعمل.
سنوات تمضي، غربة وعمل شاق.. وقاسم مازال مصراً على الحياة.. يمدد انتماءه لها بالرؤى والأحلام. يعود من عمله ليصبّ جام عرقه على أوراقه البيضاء النقية كلون قلبه.. ولكنه لم يستطع أن يسدل ستار الماضي.. فواو المواويل ماتزال تهز أركانه.. تلاعب بؤبؤ المدى.. وتسكب على أوراقه حنين الناي.
عجلة السنين تدور.. كل شيء تغير.. صارت الشهرة تغازل “قاسم” وكان يبادلها غمز العيون.
ذات صباح.. يرنّ جرس البيت.. تخرج ابنته البكر علياء لفتح الباب.
امرأة متعبة صفراء الوجه.. شعرها مبعثر، ثيابها رثة. خافت الفتاة وصرخت ودخلت مسرعة.
في الوقت الذي كانت فيه المرأة تقف على عتبة البيت، تنظر إلى بهائه وجماله.. الحيطان مزينة بأجمل اللوحات الفنية، وإضاءة مبهرة أضفت على البيت إيقاعاً لونياً مختلفاً، يأتي قاسم، يرى المرأة التي تقف على عتبة باب بيته..تسمرت قدماه.. مسك قلبه كي لا يسقط..فقدَ النطق لدقائق.. نظر إليها بإمعان، طغى السكون عليه!.
كان ينظر إلى شفتيها اللتين تحول لونهما للبياض. دقائق صامتة، تطرُقُ ذاكرته خيالات وصور مواجع.
كانت نجوى تنظر إليه وفي عينيها دمعة اعتذار.. تراقب انفعالات قاسم الصامتة، وتبحث مابين تجاعيد جبينه عن كلمة .
نجوى المسكونة بالرحيل، صفير المحطة أفقدها صوابها.. الوقت يميل بهما على جانبيه.. يبكي ختام اللحظة.
رنين “موبايله” أيقظ عناوين غفوته، كانت أغنية سعدون جابر تصدح: “روحي اشكي همّك لليل لليل! شفتِ العشق.. شو يسوي.. آه.. يا فلانة! شفتِ العشق..شو يسوي.. آه.. يا فلانة”.
التلفزيون يتصل بك.. نسي قاسم للحظات موعد برنامجه الأسبوعي. عاد إلى غرفته مسرعاً، تخبط في أشيائه.. حمل أوراقه.. تراشقا بالنظرات.. ترك باب بيته مفتوحاً وسط دهشة العائلة.. ومضى.
رائد خليل