ثقافة

الكحل الليلي في أعيننا بين شمس الحقيقية وفيروزيات الضوء

الكحل الليلي إرباك في عيني العلن، رعشة في مفاصل اللون، كثافة من بؤر العتمة، العتمة الجامحة بأخبار النهايات، الموشحة بصخب الشهوات المختبئة تحت الأرائك وفوق أجنحة الحكايات، يشوبه تثاؤب الليالي التي تجس السم البارد في الساعات. حيثما هناك لغز يختفي خلفه سر انبلاج الضوء وتكون النهايات، واضعاً نفسه على مقربة و تدرجات المقارنة بين أهداب الوعد وبين رمش ألق تلك الأحلام الجميلة. والحكل الليلي موشح بأقسى تقاسيم الرتم، يشتغل لحظة انهمار الأسود الكلي على بؤبؤ اللفظ على غروب الموشحات، ليضفي سحره الخبيث، حيثما لا تفرقة بين كحله وكحل عين ليله، يرشف الشهقة تلو الشهقة، جرح يكابد خصر اليوم إذا ما نام أو هدأت نبضاته من الركض،  ليلتقي احتضانه، أسود دائم التلقي، ماص دائم الأخذ، يقتنص الأنوار، ويخفيها في عبه، يشرب كاسات فيض النهار كما فوهة تغب كل السواقي، جامح بلا هوادة يشبه مغارة موصدة تنام فيها كل الألوان والأشكال والجواهر والمفاجآت، ولا تستفيق من رصدها ولا تفتح أبوابها إلا عندما يبزغ فجر آخر، عندما تنصت لحنين أول ضوء شمس يبتهج معلناً الصباح. لذا ما بالك لو كانت نجمة أو سفيرة للنجوم  كانت تغني لهذا الليل بأرديته ومعانيه المتفاوتة الألحان، رتماً بين نهاوند الأحزان وأردية الفجائع والاغتراب (ليلية بترجع ياليل وبتسأل عالناس، وبستقيهن ياهالليل كل واحد من كاس).
في قلب ذاك الأسود الليلي، كحيلة العين، جميلة الحنجرة والصدح تغني  معلنة ومؤكدة براءتها من كل ذاك السواد: (أنا مش سودة بس الليل سودني بجناحه).
هنا حينما تشكل العالم على بكاء وامتهان هذا الوشاح الأسود لأرض أينعت منها شموس العشق، وغنت لأجلها حضارات وأمجاد الكون، حينما يهب لرفع كل الرايات السوداء. واضعا قلبا وأما وطفلا وأرضا على (جناح السواد)، وفوقه يصب رماد البراكين وشطحات الأحلام، في تلك العتمة المضنية حيثما تتوالى تحولات الموت زاهقة غير سائلة عن الجسد وصبوات الأرواح، حيثما تتوالى الليالي ليلة بعد ليلة, لتذيق مرار مصيرها لكل أبناء الضوء، وتسقيهم من ذات الكأس: كأس المرارة وجزع الأعناق في تطلعها لعين الفرج وضوء الصباح.
تتآكل الشرانق، تعلو المشانق مشنقة تلو مشنقة، تنمو الأشواك في المفارق، ممهدا (لزهر القناطر يفتح بهالميل وهالميل) ولكل زهور الصبار أن تنحني رغم نزيف الدم من تربة الأيام. حيثما (لا خيل ولا خيال).
الليلة اليتيمة التي ينطوي فيها كل ما هو معلن ومنشور ويلوذ كل شيء في أكواره. مجتمعاً على نفسه، مغلقاً بتلات زهور الحب الخجول على سره وتنام زنابق السلام. لتصون ما تبقى منها  لتفتح دائم قادم غير ميسر في تلك الليالي الظلماء.
حيثما تؤجل يناعها ارتحال سواد ليتلف بها أو أكثر. منذرة بإشراقها ببياض الأمنيات. مشيرة إلى الأسود، لا يلغي بياضها طاغوت الظلام. مذكرة بقول الحكيم لاو-تسو في كتابه التاو: (اعرف الأبيض وعليك بالأسود، كن أمثولة الدنيا حقيقيا غير متفرج، تبلغ الأبدية).
إذا كان المؤكد هو الأسود الحالة المثالية النقيض للأبيض، الظلام هو الوجه الآخر للضوء. الأسود انعكاس الأبيض كل في وجهته. الأسود ذاك “البالوع” النهم للألوان، والأضواء وهو مقبرة تبوح  رغم قسوتها بوعود الحياة وتهب الأرض كينونتها، لتكون دنيا أرضنا أمثولة الدنيا. مانحة سر التوالد المستديم من عمق العتمة حيثما ينشق الضوء وبوح الفجر وتصرخ الحياة.
الأسود والأبيض صراعان من التضادات والتناقضات إذا ما انفصلا، أما إذا ما اندمجا فيصيران رماد كناية للبؤس والعدم والانطفاء، إذا ما تأملنا الأسود ملياً سنجده مليئاً بأشكال الرعب والمخاوف والغموض، وغموضه يحول بيننا وبين معرفة أسراره، فكلما توغلنا باسوداده أكثر تنضرب مشاعرنا وتتشوش أفكارنا، لكن طوال البقاء فيه يهب المفاجأة ويحضر إلى استنارة العين الداخلية لدينا، وهناك يصير المرء قادراً أن يرى كل أشكال وتدرجات الضوء ويكتشف من صلبها مالا يتوقعه لو كان هو في الضوء لوحده.  أما السحر الكامن في الأسود، رغم آلامه المحضة الكناية، هو في لحظة تساقط الأضواء عليه، حيث تدرك الروح تلك القساوة التي كانت والأبعاد الموجودة في مفاصل قراراتنا غارقة بعتمتها، يضاعف الأسود نفوره من الأضواء المتناقضة، مضاعفا حذرنا منه من جديد بافتعال كل أشكال الطمأنينة. واختيار مسالك الهرب ولو كنا واهمين ذلك بخيالاتنا وطرائقنا.
هي أرضنا شبيهة برداء فيروز الآن، الأسود يحيطها بأسرار وغوايات ونجوم، ويحيلها إلى ليل معتم مفعم بالموت في سريرته كل حكايات الانبعاث والخلق. والولادة رغم كل أنواع المعاناة.
مشيرا من خلال هذا الظلام الحالك لمفاتنه البيضاء. والى نهايات شمسية مبهرة لحاضر مزين بوهج حقيقتها، فهو رمز للصفاء والانسجام، هادئ عاقل لا يعرف العبث يعطي ولا يأخذ، بلا عبثية القهر والندم، بينما يبقى الأسود شتوياً مشاكساً يثير زوبعة التساؤلات، وتبقى أرضنا كفيروز تناوب بين الأسود والأبيض، لكنها تبقى ملكة للنهارات وسيدة لأسرار الليل والأقمار.
وها نحن بين غمرة حكايات الليالي وعتمتها، تنتظر هبة الأبيض وشروق شمسها المستدامة الحقيقية، على الرغم أننا نغرق تحت عتمة الأسود الشتوي نتملل في رطوبة الوعد وبواطن الخلجات، وبذور الحب وتنبض الأمنية في الأرحام والأعشاش لتبدأ دورة الحياة صعودها، متدرجة من السواد إلى البياض، وبينها يسطع شمس في ملكوت الزمان اسمها الأوطان. وبين فيروزيات الحنين وحلكة أعداء الزمان تبقى الشمس وأرضنا تغني (غبلك شي ليلة يا ليل ونسانا يا ليل….).
رشا الصالح