ثقافة

“الهايكو” ليس “روشيتا ” طبية

“الأوركيدة المريضة التي أحسنت رعايتها ..أخيرا تشكرني ببرعم”، “زهرة الكرز الصامتة ها أنت تعودين ببلاغتك العريقة.. لمخاطبة أعماقي”، “الليل يحل.. صامتة في مياه حقل الأرز.. تضيء المجرة” ما سبق هو مقاطع أو قصائد من شعر الهايكو الياباني ومن الكتاب الشهير “أزهار الكرز” ومن يقرأ المقاطع السابقة وغيرها من هذا الشعر سوف يدرك فورا أنه أمام نظام علاقات لغوية معقد ومتشابك بشكل كبير مع المقطع البصري أو المشهد، إنه في الحقيقة الترجمة اللفظية أو محاولة الترجمة اللفظية لمشهد ما، قد يشاهده مئة شخص في وقت واحد، لكن الحساسية الشعرية التي فيه، لن تحرك إلا مشاعر من عرف كيف يتقاطع الحرف والصورة لتشكيل، تلك اللوحة البديعة والرشيقة.
ككل أمة، لليابانيين شعرهم الخاص، وليد ثقافتهم وفكرهم وتجاربهم، وناتج علاقاتهم الحقيقية القائمة بينهم وبين الطبيعة من حولهم، بين دواخلهم وما اختزنته من حكمة في تجاربها مع هذا العالم، الذي تنعكس صوره في الحياة، فتأخذ كل أمة وحسب ثقافتها ما يمس كيانها ووجدانها فيه، وتحيله إلى علامتها الخاصة والفريدة.
والهايكو  هو نوع من الشعر الياباني، يحاول شاعره، من خلال ألفاظ بسيطة التعبير عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة، وتتألف أشعار الهايكو من بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا باللغة اليابانية، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر(خمسة، سبعة، خمسة) إلا أن الهايكو ينحدر من نوع آخر من الشعر القديم وهو الـ “رنغا”  وهو أكثر رونقا وإرهافا من الأول، انتشر في البداية بين الأوساط المثقفة، وكانت أصول هذا الفن تعود إلى مباراة شعرية يقوم فيها شخص ما بإلقاء البيت الأول أو “هوكو” ويتشكل من سبعة عشر مقطعا صوتيا (5-7-5)، على أن يقوم الباقون بتكملته ببيت ثان وهكذا، ولكن ما شأننا نحن بهذا الكلام؟
الهايكو كفن تتفاوت درجات تذوقه بين القراء كل حسب وعيه وثقافته ونظرته للأشياء عموما، لم يعد حكرا على اليابانيين، فها هم العديد من الذين يخوضون بالشأن الشعري المحلي الآن، يكتبون “الهايكو” ، كما فعل غيرهم في بلاد مجاورة، ولسنا الآن في صدد قراءة جيراننا في هذا الكوكب، بل من الأجدى الوقوف ولو قليلا عند من ذهب إلى قصيدة الهايكو من “شعرائنا” ليعبر فيها عن “جوانياته” تاركا كل الشعر العربي والسوري بأنواعه “الأصيلة والدخيلة” وهذه الدخيلة، سيكون لنا معها أحاديث في قادم الأيام، ولئن كان البعض منهم قد برع فيها مثل الشاعر “محمد عضيمة” مثلا الذي يحيا في اليابان ولا ريب أثرت فيه زهور الكرز، والعوالم الحسية المحيطة به فالعديد غيره وقع في فخ الاستسهال، حيث تبدو للوهلة الأولى قصيدة “الهايكو” سهلة، بسيطة، سطحية، وهذا ما ليس حقيقيا في نتاج اليابانيين الشعري الكبار منهم على الأقل، أو أرباب هذا المذهب كـ “باشو” المعلم الأول لهذا الفن.
ولكن لماذا هذا الرأي في كون أغلب هذه النتاجات “الهايكوية” لم تكن على الدرجة الكافية من الخبرة والدراية بما تفعل؟ والدليل في كون معظم هذه النتاجات لم يسمع بها إلا أصحابها وبعض أصدقائهم، ولم تلق صدى عند القراء، الذين ربما لم يسمعوا بها، ولا حتى بالهايكو، وهذا ليس ذنبهم ولا حتى مأخذا عليهم، السبب يكمن في الآتي: مبدئيا نستطيع تشبيه “الهايكو ” باللقطة الفوتوغرافية أو السينمائية الخاطفة وعليه فلا أسهل من كتابته كما يستظن! فهو مثل أن يقوم أحدهم بتصويب كاميرا جواله، والتقاط صور هنا وهناك لما يراه فريدا ويستحق الحفظ، وهكذا تصبح الكتابة كما لو أنها ترجمة حرفية لما تلتقطه كاميرا ذاك المجرب أو غيره من جماعة “الهايكو” وتكون النتيجة في الغالب، مقاطع منضبطة من حيث الشكل بالتقطيع اللغوي للهايكو- كما يمكن ضبط إعدادات الكاميرا – أما من جهة المعنى والعمق والدلالة، فهي لا علاقة لها بالهايكو لا من قريب ولا من بعيد، وبما أن أصحاب أنصاف المواهب يحتاجون دائماً لـ “عَلّاقة” لنتاجهم، فلا أسهل من القول أنهم يكتبون شعرا مستوردا له نوع محدد، ثم يربطونه فكريا في “الهايكو” ويذهب قراؤنا على بساطتهم إلى تصديق تلك “الخزعبلات” على أنها “هايكو”.
يصف الكاتب “حسين أحمد إسماعيل” الذي اكتفى من الأدب في الخمسين من عمره بـ شعر “عمر بن الفارض” صاحب “شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامة ً سَكِرْنا بها، من قبلِ أن يُخلق الكَرمُ” وبالهايكو على يد شعرائه الكبار: يقول في مختارات قدم لها من شعر الهايكو: “الهايكو فتنة المرئيات من خلال أجنحة الإيحاء، ويتطلب ذلك ذكاء روحيا وحواسا متيقظة، وتهيؤ لتلقي هبات ونِعَم الهايكو وفيوضاته، هو اللون الذي يخبئ ألوان قوس قزح المزهرة المفرحة” ومن خلال هذا الوصف المحكم لطبيعة هذا الجنس الشعري، نستطيع أن نلحظ أن الرهافة الحسية التي ينتجها التأمل غالبا، هي المولد الأول لتلك الومضة التي تنفجر ألوانا بديعة في القول، وهذه الرهافة يجب أن تكون أصيلة أولا حتى تترجم دلالاتها الحسية لغويا، وهنا يجيء اختلافنا مع ما سبق ذكره من الذاهبين لقول “الهايكو” وكأنه مشاع- رغم تعصبنا شخصيا للقصيدة العربية- فالأصالة ليست إرثا جينيا في الأدب، إنها اكتساب معرفي عميق، وسعي حثيث لنبذ كل معكرات الجمال والألق والنشوة، وهذا ما لم نجده كقراء في عموم تلك النصوص والكتب التي قالت أنها “شعر هايكو” وبقي القول قولا فقط.
هذا غيض من فيض المذاهب والأجناس التي بات “كتابنا وشعراؤنا” يتحفونا بها في هذا الزمن الصعب، وللحديث تتمة.
تمّام علي بركات