التوثيق الزماني والمكاني في حياتنا

تدوّن ذاكرة الإنسان أحداثاً ارتبطت بزمن معين ترافقه إلى نهاية المطاف، ومع مرور الزمن يغدو كل حدث علامة فارقة للعام بعيداً عن تفاصيل الشهر واليوم والساعة، وكثيراً ما توقظ الأمكنة في دواخلنا أحداثاً خفية اعتقدنا أنها تقادمت واندثرت ومُحيت من خزائن ذاكرتنا مع مرور الوقت، لكن ما إن تطأ أقدامنا تلك المساحة المحصورة، حتى نشعر بتغييرات نفسية تؤثر سلباً أو إيجاباً على سلوكياتنا وتواصلنا مع ذاتنا ومع الآخرين.
وعلى الصعيد العام يربطنا الزمن وتربطنا الأمكنة بأحداث بدت لصيقة بحياتنا، لاسيما إذا وُثّقت بمشاهد سينمائية تصوّر فجائعية ما حدث ليبقى التوثيق المكاني والزماني شاهداً على التاريخ وعلى أحداث يجد الإنسان نفسه عاجزاً إزاء قسوتها، وكان للسينما السورية دور كبير في توثيق أحداث الحرب من خلال التوثيق المكاني والزماني، ففي فيلم “مطر حمص” للمخرج جود سعيد رأينا مشاهد حقيقية للتخريب والدمار التام لحارات حمص القديمة بكاميرا واقعية لا تعتمد على الغرافيك وتقنيات الكمبيوتر والمبالغة السينمائية، وفي فيلم “ياسمين” وثّق المخرج المهند كلثوم أحداث التخريب التي قضت على حياة الأطفال الآمنة ليجدوا أنفسهم فجأة في واقع مرير بعد أن فقدوا الأم والأب والمنزل، والأكثر قسوة أن المخرج وثّق عاهات الحرب التي نالت الأطفال الأبرياء، وفي الفيلم القصير للمخرجة ريم عبد العزيز “فقط إنسان” نرى التوثيق المكاني النفسي بوضوح عبر الربط بين مكان الحاجز واستشهاد الجندي. أما فيلم “ردّ القضاء” للمخرج نجدت أنزور فوثق حدثاً عاشته سورية وخطّ سطراً في سفر التصدي الإرهاب من خلال صمود قوى الأمن والسجناء في سجن حلب المركزي، ليعود المخرج باسل الخطيب إلى الربط الزمني والمقاربة بالدمار والصور الفجائعية بين مشاهد الحرب السورية والعدوان الإسرائيلي على القنيطرة في حرب تشرين التحريرية، وتتغير صورة التوثيق الزمني والمكاني في فيلم “الرابعة بتوقيت الفردوس” للمخرج محمد عبد العزيز حينما وثّق نزوح السكان وهجرتهم من مناطقهم الآمنة نتيجة الارتكابات الإرهابية فيها ليجدوا أنفسهم في زحمة العاصمة وهم لا يملكون شيئاً.
ولم تقتصر صور التوثيق على الأفلام الروائية القصيرة والطويلة وبعض أفلام منح الشباب والأعمال الدرامية التلفزيونية مثل بانتظار الياسمين، والتوثيق الأدبي في الروايات، والمجموعات القصصية الكثيرة التي دوّنت قتل الأبرياء برصاص القناصين وشظايا القذائف إلى الكتابات الصحفية فقط، إذ وثّقت المشاهد الصامتة في الأفلام الوثائقية القصيرة المفعمة بالألم وصور الدمار الذي لحق بمعالم المدن السورية وآثارها ومساجدها وكنائسها. لنتساءل عن قيمة التوثيق الزماني والمكاني في حياتنا الذي غدا عنصراً أساسياً من مقومات حياتنا ليس فقط كشاهد على التاريخ، وإنما كوسيلة من وسائل الدفاع المشروع عن الذات والحياة، وسيلة تظهر الحق وتعرض الحقائق وتقف في وجه الإعلام المضلل.

ملده شويكاني