ثقافة

لا تقترب كثيراً!

غسان كامل ونّوس

ليس الحبّ من أوّل نظرة، ولا الكره، قانوناً يصحّ القياس عليه دائماً، في علاقاتنا العامّة؛ فقد تبدو ملامح أشخاص، نلتقيهم للمرّة الأولى، قابضة منفّرة، ونقرأ الوعورة في تقاطيعهم، وتعليقاتهم؛ لكنّنا حين نعاشرهم مضطرّين، نكتشف- ربّما- أنّهم طيّبون واضحون وعلى سجيّتهم، حتّى في التعبير عن مشاعرهم، بأسلوبهم غير المحبّب؛ وتبقى مفاجأتك هذه أفضل بما لا يقاس، من انخداعك بمن اعتقدت بأنّه ضالّتك في مشوارك الحياتيّ، الذي قد لا يتّسع السبيل- سبيلك- فيه إلى كثيرين، لدى اقتناعك بعد طول تردّد، أنّ هذا الدمث السلس اللبق النظيف، ذا المَعالم المُريحة والمبشّرة، ليس على ما يبدو، أو يُظهر، وقد تمنّيت تكرار اللقاء به، وربّما سعيت إلى ذلك بتفضيل وتسريع؛ قد تكذّب ما وجدت حيناً، آملاً أن تكون ملاحظاتك على سلوكه، وأدائه، مخطئة؛ ليس في ما يخصّك شخصيّاً، هذا الذي قد يحرص على مراعاته، لغاية أو قصد؛ بل إزاء الآخرين، حتّى القريبين منه، أكثر ممّا هم بالنسبة إليك!.
وقد تضحك على نفسك، ومنها، حين لا تتعلّم من تجاربك، وتقع في الفخّ مرّة تلو أخرى؛ لكنّك تسوّغ، كي تغفر أو تستغفر، بأنّك طيّب، تضمر الخير للناس، أو تظنّ بهم خيراً؛ كي تستطيع إكمال المسير مع رفقة من بشر، قد يكونون مهمومين مثلك، أو لعلّهم يخفّفون عنك، وعنهم… لكنّ التجربة تشير إلى أنّ الخصومة الأشدّ، أو الفرقة الأبعد، تكون ما بين من كانوا الأقرب والألصق، والأكثر مسارّة وبوحاً، وحين تقع المصيبة، يكون لدى كلّ منهما، من أسرار الآخر وخفاياه، ما يمكن أن يشكّل له فضائح ومشكلات مع كثيرين-وكثيرات- يهرع أغلبهم حين يدقّ ناقوس الخطر، لا للمصالحة ورأب الصدع؛ بل للثرثرة ونشر الكلام المسيء والمفرِّق، والنيل من كليهما؛ ولا سيّما إذا ما كانت علاقتهما الوطيدة السابقة، قد شكّلت مانعاً أمام لغوهم أو عبثهم المؤرّق. هناك أكثر من علاقة حميمة جدّاً تحوّلت إلى قطيعة؛ وأكثرُ من تواصل محموم، صار انبتاتاً فظّاً، وتمترساً غريباً وراء حدود لم تكن موجودة، أو لم تكن تُرى؛ هل لأنّ “عين المحبّ عمياء”؟! أليست أشدّ حوادث الطلاق انفجاراً تقع ما بين زوجين كانت قصة حبّهما ملء الآفاق، وقد خاصم أحدهما أو كلاهما من أجلها الأهل والرفاق، واخترقا بها الأعراف والتقاليد والقوانين.. ربّما؟!.
ويبقى هذا في نطاق العلاقات الاجتماعيّة مألوفاً أو معروفاً؛ فلا أحد من دون سلبيّات من وجهة نظر الآخر، على الأقلّ، والأفضل أن تكون العلاقة تكامليّة، وليست تطابقيّة، سرعان ما تنفر فيها النتوءات المتبادلة، وتتدافع المناطق الشائكة، التي يعزّ تواشجها في الكائن الآخر. وحتّى لا تظهر هذه الوعورة المادّيّة والنفسيّة، الموجودة بأيّة نسبة أو درجة، من الأفضل أن تُترك مسافة أمان، يبقى التحرّك في حيّزها ممكناً من دون تصادم أكيد، أو تكسير كبير لدى الآخر، أو بخسائر أقلّ، فيما لو قرّر أحدهما التوقّف، أو تغيير المسار، أو شاءت الظروف ذلك!.
وهناك حالات عديدة، تترك خيبة لدى الاقتراب الشخصيّ والنفسيّ، مع تخيّل مسبق، أو توهّم جاء من سمعة أو سيرة مبالغ بها، أو إعلام مضلِّل؛ فتحدث الصدمة، التي تكون كبيرة إلى درجة تجعل من الشخص المستهدَف مثار أسئلة وانتقادات وتسفيه واحتراب، وفي هذه الخيبة أثر سلبيّ، على ما قد كان يمثّله هذا الشخص من رمز أو قدوة، في مجال أو مشروع أو تيّار.
ويحدث أن تقرأ لكاتب، ما يعجبك، أو يجذبك إلى أفكاره، ورؤاه، وتتعلّق به، وتتوق إلى لقائه؛ لكنّك حين تقترب منه كثيراً، تجد البون شاسعاً بين ما قرأت له، وتوهّمت، وبين ما هو عليه في الواقع، فتصاب بصدمة تفقدك الثقة بالكتّاب والكتب والأدباء والمثقّفين والثقافة كلّها!.
يحدث هذا في مختلف دروب الحياة ومشاريعها، في السياسة وأحزابها وثوراتها، كما لدى أصحاب الأفكار الاجتماعيّة، والرؤى الفكريّة، والنظريّات الدنيويّة والأخرويّة، الذين يُبهِرون، ويسُودون، ثم تنوس أصداؤهم، وقد يختفون، ليظلّوا مجرّد ذكرى أو تجربة للاعتبار!.
لهذا وسواه، ومن أجلك وأجلي، والآخرين، وأجل الحياة ربّما؛ أقول دائماً، من دون الادّعاء بالقدرة على ذلك: لا تقترب كثيراً، حتّى لا نبتعد أكثر!.