مرثية الموت الذي لايموت في رواية “انقطاعات الموت”
عندما يطبق الموت على أسباب الحياة ويتغول ويتطاول ليملأ فراغات النور ككابوس يلاحق ضحاياه في محيط يزداد انغلاقا على واقع مظلم، ويقع الكل في شباكه مثل إخطبوط أسود يهيمن على فضاءات العيش والوجود، يتعجل الحلول في النبض الحي لتأتي عبارة جوزيه ساراماغو التي يفتتح بها روايته “انقطاعات الموت”- ترجمة صالح علماني ومن إصدارات دار مسكلياني: (في اليوم التالي لم يمت أحد… مستطرداً في فانتازيا افتراضية للأيام التالية بانعدام حدث الموت وتوقفه عن استلال الأرواح.. والسؤال اللغز هل ثمة موت للموت أو إضراب عنه مثلاً ، حيث لم يتم تسجيل أي حادثة وفاة طبيعية أو غير طبيعية لاحتمال اضطراب كوني مجهول السبب لشهور سبعة متعاقبة مدخلاً القارئ في متاهة التفكير في حقائق الوجود والعدم ليسلط الضوء على فكرة مناقضة لما عهدناه، وهي مديح الموت ومسح إحساس القداسة البراق عن فكرة الخلود التي لطالما داعبت خيال الفرد وشغلت الفلاسفة على مر العصور، حيث إنه بغياب الموت يتقوض الكثير من المسلمات والقواعد والقوانين.. ماذا تفعل الكنيسة ورجالات الفقه والدين عندما لا توجد نهاية لهذه الحياة، أي آخرة يخيفون رعاياهم بها وأي جنة موعودة إذا لم يكن ثمة نهاية منتظرة، وحيث اغلب الشرائع قائمة على البعث والنشور والعالم الآخر.
يغوص صاحب “العمى” في تصوير حالة البلبلة التي أصابت المجتمع في غياب ذاك المسمى الرهيب حيث تخبط الجميع من أصحاب السلطة ورجال الإكليروس الديني فلم يعد ثمة موتى يحتاجون الراحة والسكينة ولم تعد ثمة حاجة للوعظ.. إذ لم يعد أحد يصعد إلى السماء حيث وجود هذه الفئة قائم على “تدبر ما هو فوق لتحكم من هو أسفل” بتواشج السلطتين الدينية والسياسية أيضاً شركات التأمين على الحياة في طريقها إلى الإفلاس لأن الحياة مستمرة بدون الحاجة إلى خدماتها، ومع ذلك نرى الوجه الآخر المبتذل للخلود عندما تصبح الحياة الهرمة والكئيبة متواصلة، عندما يصبح المرض العضال مستمراً بلا طائل، عندما يصبح الألم الجسدي عبئاً على صاحبه وعلى من حوله بذات الوقت، حيث لم يبق بين الأحياء من هو قادر على العناية بالعجزة الذين لا يموتون ولم تعد دور رعاية المسنين تتسع لأحد ومع ذلك مافيات الفساد والرشوة لا تعدم سبيلاً للإثراء والربح والمتاجرة حيث نشطت تجارة نقل المشرف على الموت إلى خارج المنطقة ليتوفى ويعاد دفنه في منطقته حيث يغدو الموت أمنية لا تطال.
يجسد ساراماغو الموت بشخصية امرأة بقدرات غرائبية ترسل رسالة باستئناف عملها في حصد أرواح أهل القرية بعد توقف دام سبعة أشهر، فتستبق الأمر برسالة بنفسجية ترسلها قبل أسبوع ليتمكن المحتضر من تصفية أعماله، لكنها تفاجأ برسالة تعود إليها ثلاث مرات دون استلامها ليتسارع فضولها إلى معرفة المستعصي على قوانينها، حيث تسعى للقائه وتسليم المغلف البنفسجي بيدها لذاك الموسيقي الذي يخلب لبها بأنغامه، وخاصة “السوناتا السادسة” لباخ التي أثارت في نفسها أحاسيساً غريبة وصادمة، جعلتها تحرق المغلف وتطوق عنق العازف وتعزف عن عملها لتنتهي الرواية مثل ما بدأت “في اليوم التالي لم يمت أحد”
ساراماغو الذي يرى ما وراء البصر يدخل عميقاً في النفس والذات ليحاور الواقعة بمنطق الواقع ليكشف زيف الادعاءات والواقع بسخرية عابثة عبر هوسه بالأضداد المتصارعة.. الزهو والمذلة.. الظلام والنور.. البصر والعمى.. الحياة والموت، من خلال اللعب بالمفاهيم الكبيرة التي كانت الشغل الشاغل لفلاسفة العصور السابقة ليخضعها للمنطق الحياتي البسيط حيث الدهشة المتسارعة لفانتازيا تحريك الثوابت، وإعادة التساؤل والجدال الأولي حول ماهيات سرمدية لاستنطاق ماوراء الحقائق عبر زمن سردي غير مدرك، متماهٍ مع فرضية تسحب القارئ إلى أجواء التمعن بالمعنى. معنى الأشياء دون مسميات لتعميق الموقف التأملي للفرد إزاء غوامض الحياة والموت
الرواية، ورغم أنها تجتهد في مديح الموت وأهمية وجوده كحقيقة لا غنى عنها لاستمرار الوجود وتوازنه ، فهو يختمها بتعلق سيدة الفناء بعازف الموسيقا كأبلغ تعبير عن النبض الحي مضمناً تأويل الموقف بأنه حتى الموت يعشق الحياة.. الحياة هي المبتغى والمرام.
دعد ديب