ثقافةصحيفة البعث

التطبيع في خطوة جديدة.. هل تبقى الثقافة باباً موصداً في وجه المهرولين؟

قابل عدد من المثقفين العرب خبر تطبيع العلاقات السياسية بين دولة الإمارات  والكيان الصهيوني بمواقف جريئة رافضة تخطّت حدود الشجب والاستنكار، إلى اتخاذ قرارات فعلية تعبّر عن حرص كبير منهم على بقاء الوعي الشعبي العربي بمنأى عن خطر الغزو الثقافي كطموح غربي إسرائيلي، الهدف منه هدم ذلك الجدار الذي بناه المواطن العربي عموماً والمثقف خصوصاً، طيلة سنوات الاغتصاب الصهيوني للأراضي العربية، ومازال صامداً حتى يومنا هذا رغم الاختراقات المحدودة والفردية من هنا وهناك، وتقابل بسخط شديد.

ومع أن هذه المواقف سالفة الذكر تبدو خجولة ومحدودة قياساً بالاعتراض الشديد الذي قابل به المثقفون العرب اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو لاحقاً بين كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة، وكيان الاحتلال من جهة أخرى، لكنها تؤكد على استمرار صمود المثقف في وجه الضغوط المادية والسياسية التي يتعرّض لها، ولاسيما أمام الدور الذي تلعبه دولة الإمارات كثقل مالي ومؤسساتي يرعى الكثير من الفعاليات الثقافية والفكرية مادياً.

وباعتبار أن التطبيع الثقافي هو أخطر أشكال التطبيع الذي تطمح إليه “إسرائيل”، لما يشكّله من جسر نحو غزو المجتمع العربي بكل أطيافه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فإن استهداف المركز المالي المنتج للثقافة في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها مراكز الإشعاع العربي في سورية ومصر والعراق ولبنان، والوصول إلى الإمارات مقصد الفنانين والمثقفين، هو ضربة مؤلمة لتيارات مقاومة التطبيع الثقافي، وكلنا يتذكر الضجة التي أحدثها عرض مسلسلي “أم هارون” و”مخرج 7″ اللذين عُرضا خلال رمضان الفائت على قناة “إم بي سي” عرابة التطبيع الثقافي مع “إسرائيل”، والتي تتخذ من الإمارات مقراً لها. حيث اعتُبر الأمر حينذاك أخطر من تطبيع، بل تمجيد للكيان الإسرائيلي وتزوير للتاريخ وقلب للحقائق، وبث ثقافة الكراهية للفلسطيني المقاوم.

لهذا تأتي مواقف المثقفين الذين عبّروا عن رفضهم للتطبيع والتضحية بمكاسب مادية ومعنوية كبيرة تقدّمها لهم مؤسسات ثقافية وفنية إماراتية، دليلاً على صلابة ذلك الجدار، وخاصة أولئك الذين اتخذوا قراراً بمقاطعة كل أشكال التعاون الثقافي مع المؤسسات الإماراتية، منطلقين من إيمان راسخ بضرورة حماية منظومة المقاطعة الثقافية العربية لكل أشكال التطبيع، وبقائها فوق كل القرارات السياسية. نذكر منها طلب الروائي الفلسطيني يحيى يخلف من ناشر روايته “الريحانة والديك” وقف ترشيحها لجائزة البوكر العربي التي تنظمها الحكومة الإماراتية كل عام، الموقف الذي شاركه فيه مواطنه الروائي أحمد أبو سويلم بسحب ترشيح روايته “بروميثيان”. كما اتخذت الروائية الأردنية كفى الزعبي موقفاً جريئاً برفضها ترشيح روايتها الجديدة التي ستصدر قريباً للبوكر أو لأي جائزة خليجية أخرى، وكانت قد وصلت روايتها “شمس بيضاء باردة” للقائمة القصيرة في جائزة البوكر العام الماضي.

كما أعلن الناقد والمترجم السوري ناصر ونوس عن إيقاف تعاونه مع جميع المؤسسات الثقافية والإعلامية الإماراتية احتجاجاً على اتفاق التطبيع، وكان ونوس يعمل في مشروع “كلمة” للترجمة في أبو ظبي، والذي صدر له ضمنه كتابان هما “صناعة الأفلام الوثائقية” و”الإخراج السينمائي- جمالياته وتقنياته”، كما راجع ضمن المشروع كتاباً بعنوان “سينما ساتيا جيت راي”.

ونشرت الكاتبة والمترجمة المغربية الزهرة رميج تدوينة عبر “الفيسبوك” تعلن فيها انسحابها من ترشيح روايتها “قاعة الانتظار” لجائزة الشيخ زايد، وكذلك فعل الناقد المغربي يحيى بن الوليد بسحب كتابه “المثقفون العرب” من الجائزة نفسها. وأعلن مواطنه الكاتب عبد الرحيم جيران استقالته من هيئة تحرير مجلة “الموروث الثقافي” التابعة لمعهد الشارقة. ولعلّ الموقف الأبرز كان للكاتبة الإماراتية صاحبة كتاب “منفى جامعة الدول العربية” ظبية خميس التي عبّرت في صفحتها على “الفيسبوك” عن استيائها بقولها: “لا أفهم معنى التسامح والسلام مع الكيان الصهيوني المحتل للأرض العربية..”، واستهجن الشاعر العماني عبدالله حبيب بيان خارجية بلاده المؤيّد للخطوة الإماراتية، معرباً عن تخوفه من أن تكون بلاده هي المستهدف الثاني في الخليج.

هذه المواقف وغيرها، رغم أنها أقل من المأمول والمنتظر من المثقفين والفنانين العرب على وجه التحديد، الذين تشكّل دولة الإمارات ملاذهم المادي والمعيشي، فإنها تبقى نواة لتعزيز صمود تيار مقاومة التطبيع والاختراق الثقافي. فالتجربة المصرية بعد اتفاقية كامب ديفيد مازالت شاهداً حياً لرفض ومقاومة التطبيع، حيث ظلّ الوعي الثقافي للمجتمع المصري حتى الآن يعتبر أي محاولة للتطبيع ثقافياً واجتماعياً مع “إسرائيل” جريمة لا تُغتفر.

ورغم مرور أكثر من أربعين عاماً على اتفاقية “السلام”، بقي المجتمع المصري عموماً، مغلقاً أمام أي شكل من أشكال العلاقات الطبيعية مع مجتمع هذا الكيان، ولا تزال قصيدة الشاعر أمل دنقل “لا تصالح” تملأ الحناجر في أكثر المناسبات والفعاليات القومية، كما قدّمت الرواية المصرية نصوصاً كثيرة تعكس هذا الواقع الرافض، وكذلك السينما التي لا تقدم “إسرائيل” إلا كعدو محتل ومعتدٍ من فيلم “الطريق إلى إيلات” و”العبور”، و”الرصاصة لا تزال في جيبي” إلى فيلم عادل إمام “السفارة في العمارة”، الذي ركز فيه على الرفض الاجتماعي لوجود السفارة الإسرائيلية في مدينتهم، ورفض السكن بقربها، والامتناع عن التعامل مع الدبلوماسيين الإسرائيليين.

وكذلك الحال كان في الأردن الذي قاوم شعبه كل أشكال التطبيع الثقافي والاجتماعي انطلاقاً من عاطفتهم القومية والعروبية المتجذرة في الوعي والمزاج العربيين.

آصف إبراهيم