ثقافة

أصابع من قوس قزح

كثيرة هي العقول التي شكل الفنان السوري ممتاز البحرة – 1938-2017- وجدانها اللوني الحسي في مرحلة غضاضته الحساسة جدا، والتي يعتبر فيها عقل الطفل ورقة بيضاء ُتسجل عليها الانطباعات الأولى لكل ما يتعرف عليه، فتبقى آثارها في جوانياته، باقية ما بقي، ليجيء هذا التشكيل الفني النوعي الذي اجترحه ذاك الفنان المرمري الروح، بأصابع قدت من أقواس قزح، وكأنه نحت أزميل سماوي، ربط الخيال بالمتخيل بكل رهافة واحتراف، فصارت الحروف غيوماً ملونة في عيون التلاميذ الذين في الأمس فقط كانوا في أحضان أمهاتهم، وهاهم يقرؤون في كتاب المدرسة “بابا وماما” لتجيء الصورة التي رسمها “البحرة” لكل من شخصية الأب والأم، أليفة حنونة حازمة صريحة، كما لو أنهما فعلا في كتاب التلميذ يبتسمون، لا من صور أو أرواح رسمتها ألوان وقلم رصاص، ضحكة رباب وشرائطها الملونة، النظرة الواثقة لـ “باسم” وخطوته الأكيدة نحو مستقبل لا طريق إليه إلا بالعلم، هذه الشخصيات التي صارت في وجدان أجيال كثيرة، من لحم ودم، رحل مبدعها وخالقها من عدم الخيال إلى وحي الممكن.
ولعل حديثنا فقط عن هذه الرسوم التي كانت العلامة الفارقة للفنان الراحل، -على الأقل لدى الأجيال التي عرفت فيما بعد، أن تلك الشخصيات المرسومة وكأنها بخط القلب هو من صنعها وجبلها من ماء وطين ملون- هو حديث ظالم بالنسبة إلى تجربة فنية تشكيلية غنية وواسعة، تصدرت الواجهة الحياتية لـ “البحرة” حين كان الفنان لا يزال مؤمنا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، وهي من سيضعها في حسبانه أولا وقبل أي شيء، وهو يخوض في إثبات وجوده وكيانه وحيزه الضروري والحقيقي، لذا لا بد من المرور على بعض أهم مفردات هذه التجربة، التي ارتبط فيها الشخصي والوجداني لهذا الرجل الرقيق، بالنتاج الفني الذي جاء واثقا كل الثقة من كونه سيخلد.

الذائقة البصرية

تعتبر الذائقة البصرية واحدة من اعقد الأساليب التي يتقنها الإنسان في التعرف على ما يجهله بالنظر، وحسب ثقافة هذا النظر، ففي حين يختلف شخصان على الترجمة المعنوية للوحة تشكيلية مثلا، تكون الذائقة البصرية الخاصة بكل منهما، هي من تحدد رأيهما، فما رآه كل منهما، وما انتقته أو انتخبته ذائقته البصرية حسب ثقافتها ومخزونها المتصل بالصور الأولى التي اطلع عليها ومنعكساتها أو أثرها الباقي في عمق الوعي، هي من ستشكل الفكرة أو الأساس الذي ينطلق منه كليهما لدعم حجته، لذا فإن الفرق بين عمل جيد وسيء في الفن التشكيلي عموما والرسم تحديدا، قائم فقط حسب هذه الذائقة، وبالتالي فإن سعة مداركها وثقتها بما تدربت عليه هذه الذائقة البصرية الشديدة التأثر والأكثر حساسية من أي ذائقة أخرى في التعلم، هي من سيحدد قيمتها، وهذا تماما ما كان “ممتاز البحرة” يسعى إليه، إن كان في أعماله التي ترافقت والكتب المدرسية التي حملها طلاب سوريون من مختلف الأجيال ومن مختلف المحافظات السورية، لأكثر من نصف قرن، أو في أعماله التي حملتها مجلة “أسامة” الخاصة بالأطفال والتي كان الراحل من مؤسسيها، لأن فنانا رائداً مثل “ممتاز” يدرك أن عليه مسئولية كبيرة في تربية هذه الذائقة عند جمهور الأطفال، وهذه المهمة الجسورة والجريئة والجسيمة، نالت ثقة الجميع، من أطفال ومراهقين وكبار وحتى عجزة، عدا طبعا عن الثقة الكبيرة التي منحته إياها سورية ليكون أول من خاطب ذائقة أطفالها البصرية المرتبطة بالعملية التعليمية، ووعيهم التشكيلي في مرحلة التعليم الأساسي وما بعدها.
وتعتبر تجربة الفنان الراحل “ممتاز البحرة” الفنية في مضمار الذائقة البصرية السورية من التجارب ذات المكانة الخاصة والمميزة، خاصة بالنسبة إلى رسومه الكاريكاتيرية ورسومه المدرسية التوضيحية حيث تميزت بقدراتها الهائلة على توضيح الفكرة وتقريبها إلى عقل الطفل الصغير بكل يسر وسهولة، بعد أن استطاع وبكل مهارة أن يمتلك زمام خط الرسم رغم كل اختصاراته الخطية المتينة، وبساطته الفكرية لكن ضمن براعته وقوته في التعبير الفني للمضمون الفكري بكل بساطة ويسر، كما ساهمت مهارته التقنية كثيراً في تحقيق توضيحاته في رسومه خاصة المدرسية منها، ولتجربته الفنية خصوصية جعلته يتقدم بها على باقي أقرانه خاصة من حيث الأداء الفني والتقني والفكري وأسلوبه البسيط المتناهي في اختصار الخطوط واللون كي يتم توضيح الرؤية الفكرية لمضمون اللوحة وحسب المتطلبات الذهنية لعقل الطفل البسيط الذي يريد رؤية العالم الجديد.

المزاوجة بين الفن والإعلام والتدريس
حاول الفنان الراحل بجهد كبير أن يزاوج بمهارة ضمن مفهومه الواسع للعملية الفنية المعاصرة، بين مفاهيم الفن التشكيلي ومفاهيم فن الإعلام، وذلك من خلال استخدامه مفاهيم وأساليب المدرسة “الواقعية التعبيرية” فقد كان يرسم في أكثر لوحاته الأحصنة العربية الجامحة بقوة للأعلى نحو السمو والرقي، تعبيراً عن كل معاني الأمل والمستقبل المشرق لأطفالنا، جيل المستقبل، وهكذا تصبح حالة أصيلة كالفروسية وما تعنيه في الضمير العربي، مرتبطة لدى الطفل بمستقبله، انطلاق هذا الحصان الأصيل وشموخه، هو رمز للطفل السوري والعربي عموما.
ولعل أكثر ما كان ذا تأثير جلي على الأطفال في سورية والعالم العربي رسومه للمسلسلات المصورة (الكوميكس) التي أبدع فيها فكان من المتميزين والمؤسسين لمجلة مجلة الطفل العربي “أسامة” الصادرة عن وزارة الثقافة في دمشق، فأمتع الأطفال بشخصيات مثل أسامة وشنتير وماجد وسندباد من قصص من ألف ليلة وليلة.
قضى الفنان “ممتاز البحرة” آخر سني عمره في دار للمسنين، وحيدا كما رغب إلا من أطياف أحبته وشخصيات رسومه، التي أحاطت به بحنان كما أحاطها بمحبة، وأمدته بالحياة كما أمدها بالحياة والخلود أيضا، سنوات عشر أو أكثر قضاها في هذا المكان، مناجيا رفقة الصبا وخيال جدته – أمانه النفسي وبيت أسرار قلبه وروحه- وحبه الذي ذهب كما يذهب الحب عادة، بلا وداع، واليوم في رحيله الذي نطوي فيه صفحة حياة فنان وإنسان كبير، في هذا اليوم كثيرة هي العقول والأفئدة التي ربى ضميرها، ستقف أينما كانت لعظيم روحه وفنه، ولتشيعه بقلوبها أيضا في رحلته الأخيرة بين شوارع دمشق، بدءا من مفرق ذاكرتها الأولى، حتى السماء، بوابة الخلود، هناك حيث يليق بفنان أصيل مثله، أن يصبح نجما، على غرار النجوم المنيرة والكثيرة التي أنارها هذا الرجل ولكن في العقول والقلوب أيضا.
تمّام علي بركات