ثقافة

اقطف لحظتك

منذ سنوات وأنا أرى جارنا وهو جالس على ذاك الكرسي أمام شرفة بيته ليكون قريباً جداً من صيد الأحلام.. فهو لم يغير حلمه مذ عرفته يحلم بحب كبير.. وكل مرة تزهر في حياته امرأة جديدة يصنعها على مقاس رغباته وتطلعاته المبتغاة.. يرى بأن القادمة هي المؤرقة لنومه ولذا قضى حياته جالساً لا يبارح مكانه يحلم دون أن يحب.. يلف سجائره ويدخن الواحدة تلو الأخرى ويستمتع بحرقها وكأنه يحرق قلوب نسائه المفترضات.
وكنت كلما اشتد الملل بي أذهب إليه وأسأله للمرة الألف.. أخبرني أرجوك عن قصص حبك وأيام الغرام! كم مرة أحببت، وهل النساء لذيذات الوجود أم لا..؟!.
يضحك ذاك الرجل الستيني نافشاً ريش رجولته كالديك البلدي ويجيبني بصوت رخيم.. بصراحة لقد أحبني الكثير من النساء لكني لا أتذكر أنني أحببت إحداهن حتى الآن، فليس لدي وقت لهذا الكلام، مع أن لمعة عينيه كانت تشي بما في داخله، وخصوصاً عندما كان يهمس لي قائلاً: بس شو بدنا يابنتي الحب حلو..حلووو كتير ما..؟.!
وللأسف انتهى ذات صباح في بيته وحيداً وهو جالس يشرب قهوته.. مات تاركاً حلماً وكثير من النساء.
لا يملك أي إنسان في هذا العالم زمنه ولكنه يستطيع أن يؤثر في هذا الزمن، فالكثير من الأشخاص يحلمون بأشياء كثيرة دون أن يعيشوها، ويقضون أيامهم وهم يعدون أصابعهم في كل الأوقات حتى لا تضاف إليها أصابع أخرى غريبة تأتي لتقض مضجع طمأنينتهم العادية..!.
في طريقي إلى النضج اكتشفت الكثير من الأمور بعضها زاد دهشتي وبعضها سرق مني بهجتها وجمالها وفرحها.. من الظلم أن تكون المسؤولية سبباً رئيسياً لنضجنا..!. ومن الظلم أيضاً أن يكون خطيئة أن تكون سعيداً أو أن تعرف أنك سعيد..!.
الكفاح ضد الظلم يتوسع في أيامنا كالحريق، وليست هناك أي فرقة إطفاء يمكن أن تضمن سلامتنا، وكل منا يكافح ويحترق مع الإنسانية كلها.
يبدو الحب تعيساً محتاراً بأمره لدينا نحن البشر، فأغلبنا يريد أن يعيشه، لكنه يخشاه لأنه سر غريب، ولأنه كذلك يرتبط لدينا بفزع، عوض أن يتحول إلى فرح، فالكل يخشى زوال الفرح.. كانت أمي،   رحمها الله، تقول لي كل صباح استيقظي باكرا يا ابنتي اقطفي يومك قطفاً.. ذلك لأن اليوم يزول ويتلاشى وقد لا يعقبه يوم آخر.
يبدو الحب غريب وغير مريح للعلاقات الإنسانية، وقد كان كذلك منذ الأزل، ورغم ذلك يعشق الناس حكايات الحب ويطربون لسماعها، لكنهم لا يستطيعون أن يكونوا أبطالها الحقيقيين بل يفضلون أن يكونوا أبطالاً حالمين، يستيقظون كل صباح على قهوة جديدة وأشعة شمس منتظرة وحسب..
أسأل نفسي وقد اكتوى الإبداع بلهب الحب مرات ومرات وكان سبباً له.. أسأل.. هل كان المبدعون يحلمون هم أيضا ولا يعيشون؟!.
يرغب الإنسان عيش الحب إلى الأبد ويخشاه في الآن ذاته، ويستعذب قصصاً حالمة دون أن تحرق أصابعه.
الحب يتوالد.. الحب يحيي الروح وهي رميم. .
الحب يحرق، فكيف سندفئ أيدينا دون احتراق..؟!.
أجمل مافي الدفء ذاكرته.. وأجمل واغرب ما في ذاكرة الإنسان ما تختاره للاحتفاظ به من كل ما تقدم لها..!.

لينا أحمد نبيعة