ثقافة

سيّد حجاب.. الحكمة المتوارية خلف بساطة الكلمة

“منين بيجي الشجن.. من اختلاف الزمن..
ومنين بيجي الهوى.. من ائتلاف الهوى..
ومنين بيجي السواد.. من الطمع والعناد..
ومنين بيجي الرضا ..من الإيمان بالقضا
من انكسار الروح في دوح الوطن”
كيف لكلمات مثلها، ابتعدت عن النظم التقليدي، ورص الحروف، ألّا تسحر سامعها، وكيف لموسيقاها ألّا تلامس الروح، بينما العقل يستشف منها حكمتها وفلسفة؛ توارت خلف بساطتها، بساطة الناس أصحاب الحكاية المروية.
سيد حجاب ابن مدينة “المطرية”، صاحب القصائد الشعبية التي ارتقت العامية والمحكية لتصبح سفيرة لحكايات أبناء البلد إلى العالم العربي وصورة لحياته اليومية، ولتغدو سنوات حياته كلها قصيدة حب وعشق للوطن، قصيدة كانت السبب الذي دفع بسارتر لرفض زيارة مصر إثر اعتقال سيد حجاب بعد إصداره ديوانه الشعري “الصياد والجنيه” بينما كان يعمل في “روز اليوسف” مع عدد من أصدقائه من شعراء ورسامين.
حجاب بدأ علاقته بالشعر صغيراً؛ ولم يكن تجاوز الثامنة؛ في جلسات الشعر التي كان يعقدها الأب لأبنائه، يتبارون ويستذكرون القصائد، وإذ تخذله الذاكرة، ببيت يعصى عليها، يحتال ويرتجل البيت إثر البيت، تنفرج أسارير الأب بفطنه الصغير، ويذهب الخيال بالطفل فيقول لنفسه: “ها أنا قد صرت شاعراً”.
أول قصيدة لحجاب الذي اقترب من الحادية عشرة كانت في فتى فدائي يقاربه في السن استشهد دفاعاً عن قناة السويس ضد الإنكليز:
“كنا غزاة وأبطالاً صناديدا
صرنا لرجع الصدى للغرب ترديدا
لكننا سوف نعلو رغم أنفهمُ
وسيكون يوم نسورنا في الجو مشهودا”
لغة فصيحة ولهجة خطابية أظهرت قدرته على النظم وقرض الشعر، ترضي الأب وتلبي القاعدة السائدة، إذ أن “الفصحى لغة القرآن وأهل الجنة” بينما العامية لغة السوقيين والدهماء، وليس بعيداً كان هناك من الدعوات لتكفيره ما يكفي لسجنه بتهمة ازدراء الأديان، كما حدث للعديد من مثقفي مصر، إذ كتب يسخر من دعاة دويلات الخلافة يقول:
“ما تقولوليش وحدة وطنية ما أدي السودان بقى عال العال
حسب التركيبة الدينية أصبح بلدين.. ده جنوب ده شمال
ما نقسّمها.. هية حكاية!! وبلدنا إحنا.. تبقى.. ولاية
ومقر خلافة يا ضنايا
ونشعلل حرب مقدسة نغزو فيها بلاد الصليبيين
فاسمعوا.. واخضعوا.. يا أولي الألباب يا مصريين”.
الثانوية كانت مرحلة الصقل الأولى، إذ يقرأ المعلم قصائده؛ المقفاة والموزونة؛ فيهمس في أذن الشاب: “أنت تكتب هنا مشاعرك وعواطفك، وباعتيادك عليها تتحول إلى صنائعي، في بلدك 30 ألف صياد، في قلب كل منهم عشر قصائد؛ ابحث عنها” كان يرغب أن يكون فناناً لا صنائعي، فجهد في البحث عن القصائد التائهة في قلوب الصيادين وسواهم، كتبها سرداً بالفصحى وحواراً بالعامية لينحاز إلى المحكية التي طبعت قصائده التي نعرفها غناءً وشارات أعمال درامية لا تنسى.
حلم الأب بدراسة ابنه للهندسة أنهاه توجه حجاب إلى الأدب والشعر، إذ أن تواجده في مدينة كالإسكندرية؛ مفتوحة على المدى الواسع للبحر وثقافاته المختلفة، من لبنان وسورية وإيطاليا وسواها، عربية وغربية، مسرح وسينما وموسيقا سحرته وأخذته إلى عوالمها بعيداً عن الهندسة.
في القاهرة ومع بداية العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، بدأ ينشر قصائده التي أتت من وحي العدوان، وتفتحت حواسه على مشاعر؛ زادت غنى بحجم الحركة الثقافية لمدينة كالقاهرة، طاقة الحركات السياسية التي خاض غمارها مع العديد من الكتاب والشعراء أبناء تلك المرحلة.
ولأن المناخ كان مناخ نهضة فكرية وقومية بينما الكل يبحث بإخلاص عن مستقبل وغد أفضل، أتيح له نشر قصائده في برامج تعنى بالأقلام والكتابات الجديدة إذاعياً، ليطلق عليه اسم “شاعر الهندسة” فنشر في العديد من الدوريات قصائد هي بدايات النشر بالفصحى، حيث كان يحظى شعراؤها بالاهتمام الأكبر، ولم يكن الشارع الثقافي مهيئاً لتقبل العامية، سوى أن تكون حاملة لهم وفلسفة تساعدان على هضمها” كان واقع الشارع متأججاً بالصراع الذي يعكس حراك النهضة والتغيير الملحوظ، كانت قوى الماضي تحاول وقف ركب التقدم نحو المستقبل”.
حين استمع إليه صلاح جاهين شاعر الثورة الأهم حينها، استزاد منه حتى أخذه الحماس “بقينا كتير” وعندها، تيقن سيد حجاب أنه على الطريق الصحيح، ليكون شاهداً ومرافقاً لمَثَله الأعلى في أهم مرحلتين في حياته؛ مرحلة الحماس للثورة التي غيرت حياة المصريين؛ والانكسار العربي عُقب النكسة، وليصبح جمال عبد الناصر نقطة خلاف بين الاثنين؛ آمن جاهين بالزعيم المصري كما آمن الأحرار؛ فارساً سبق أحلامهم الكبيرة، بينما كان سيد حجاب لا يرى فيه أكثر من قائد وزعيم وطني لا أكثر.
شعر حجاب الذي نعرف لم يحظ بالانتشار حتى بدايات العام 1966، حيث كان يعد شاعراً للمثقفين، ولم يكن بدأ انحيازه الواضح للشعر الشعبي، وكانت كتاباته نموذجاً للشعر الملتزم الراقي غير المباشر، ذلك أن وضع الإصبع على الجرح لم يأت إلا ما بعد النكسة، التي أرخت بظلالها على الحالة الثقافية؛ ليس في مصر وحدها بل في أغلب بلدان العام العربي، كانت قصائده حينها تطفح بالمرارة التي حملها أغلب المنتج الثقافي عندها، فكتب قصيدته “واحد وعشرين طلقة في العيد” والتي شكلت شعارات تلك الفترة، ليبدأ التغيير في لغة الخطاب، عندما شعر أن كلماته لم تكن تصل إلى من يستحقها، ممن تحدث عنهم في ديوانه “الصياد والجنيه” فقرر التوجه إلى جمهوره مشافهة عبر دواوين شعرية إذاعية، فكتب للإذاعة مع الشاعر الأبنودي “بعد التحية والسلام” ثم “عمار يا مصر” وأوركسترا عبارة عن قصائد شعرية إذاعية، ليتجه بعدها للكتابة للتلفزيون والسينما.
من أعماله المسجلة إذاعياً وتلفزيونياً، قصائد: “الطوفان، سلوا قلبي، السلم والكرسي”، زي الهوا، وأوبرا ميرامار، وكتب شارات عدد كبير من الأعمال الدرامية التلفزيونية مثل: شارة مسلسل أرابيسك، العائلة، المرسى والبحار،  مسلسل الأيام، عصفور النار، وقال البحر، البحار مندى، أميرة في عابدين، بوابة الحلواني ، ليالي الحلمية، المال والبنون، ومن إصداراته الشعرية: صياد وجنية 1964، الأعمال الشعرية الكاملة، الجزء الأول، 1986، ومختارات سيد حجاب، وتميز بالعديد من الكتابات في مجلات الأطفال، نال العديد من الجوائز أهمها جائزة كفافيس الدولية عن مجمل أعماله، كما كرم باعتباره أحد رموز الشعر الشعبي في العالم العربي.

بشرى الحكيم