ثقافة

جــمــال!

غسّان كامل ونّوس

ثمّة مسألة تحتاج إلى تفكير، تتعلّق- ربّما- بقدرةِ أيّ منّا على تحسّس الجمال، وتبيُّنِ مواطنِهِ وملامحِه؛ بعيداً عن موضوع الحبّ والكره، إن كان ذلك ممكناً؛ إذ يحتاج الكائن القادر على ذلك إلى موضوعيّة، وفكر مستقلّ قادر على أن يحدّد خياراته، ويواكب توجّهاته، ويكون صاحبه أميناً على أحاسيسه، متحكّماً بانفعالاته إلى درجة مطَمْئِنَة.
والإحساس بالجمال، حيث هو، وبما هو عليه، يشكّل قيمة إنسانيّة مهمّة، تقارب الجمال، وتضاف إليه؛ ويحتاج إلى إمكانيّة حيويّة مميّزة؛ والقضيّة هنا تختلف اختلافاً بيّناً عن الرغبة بتملّك الجمال، أو استغلاله لأيّة مصالح مفترضة؛ سواء أكان ذلك سبباً لإثبات الذات، والبرهان على الفوز في سباق متوهَّم، أو كان نزوعاً لإشباع الرغبات، وإرواء مسامات النفس العطشى، فجمال الزهرة لا يدعو إلى قطفها، ووضعها في إناء، لن يطول بقاؤها فيه، أو إضافتها إلى أضمومةٍ ستُهمل بعد حين، وسيغادرها العطر- ومَن حولَها- بلا تردّد ولا رجعة؛ وجمال الطير، لا يتطلّب اصطياده، أو وضعه في قفص..
وجمال امرأة لا يعني محاصرتها للنيل منها بالرضا أو الإكراه؛ وجمال الرجل لا يفضي إلى إغوائه أو اصطياده..
صحيح أنّ معايير الجمال تختلف من شخص إلى آخر، والانفعال به يتنوّع أيضاً، من دون تحديدٍ مبرم؛ لكنّ هناك قواسم وملامح تتلاقى، وتشترك لدى عدد أكبر من الناس، يمكنها أن تعطي هذه الميزة، بدرجات قد تختلف أيضاً! وهذا لا يعني أن نفسّر الأمر على هوانا، لنتصرّف به، أو حياله، -أو نحاول- حسب انطباعاتنا غير المتوقّعة أو المقبولة أحياناً، ووفق غاياتنا، التي قد لا تكون نبيلة!.
فالجمال ليس سلعة، أو هذا ما يجب أن يكون.. مع الاعتراف بأنّ مواجهة ذلك ليست يسيرة، والتاريخ والواقع يشهدان على أمثلة لا تعدّ، ولا تحصى، تمّت الإساءة إلى ما هو جميل، من قبل قبيحي الأنفس، الشرهين النهمين الطمّاعين، أو من قبل أصحاب النوايا الحسنة، التي يمكن أن يكون كثيرون منهم في طريقهم إلى بئس المصير!.
بعبارات أخرى، يمكن أن يتمّ هذا التشويه قصداُ أو عمداً؛ كما يمكن أن يكون عفويّاً أو غير محسوب..
ولا شكّ في أنّ لأصحاب السلطات والنفوذ المتعدّد الأشكال والاتّجاهات أدواراً أكثر وأخطر في القيام بهذا التشويه؛ انطلاقاً من السطوة والتحكّم، والسعي لإثبات القدرة والإمكانيّة، والمباهاة بهذه الطرائد الجميلة، حتّى لو وُضعت في أحياز خلف قضبان منظورة أو مخبّأة؛ وقد يكون الأمر ادّعاء شعوريّاً، أو مراءاة سلوكيّة، واحتيالاً ومراوغة وعناداً.. وقد يطيب ما لدى الآخر، قريباً أو غريباً، صديقاً أو خصماً، ويُستعذَب، فتقوم من أجله علاقات، أو تحدث مواجهات، تدمّر معالم الجمال، وتقضي على آثاره..
ويبدو نافلاً القول بأنّ كثيراً من مظاهر الجمال لا يدوم، لعمر ينقضي، أو لظرف يتغيّر، أو لعصر اختلف..
ألهذا كانت الرسوم والتماثيل والصور..؟! ولتخليده في رموز؟! أم حفاظاً عليه من أيدي العابثين؛ بتحويله إلى جماد من مواد باردة، لإشباع هذه الغريزة أو إبطالها؟! هذا الذي قد لا يحميه أيضاً؛ فله كارهوه دائماً؛ الغاشمون، الذين ينالون منه، حتّى لو كان حجراً أو بناء أو موادّ غشيمة!. فكم من جمال ذبل باصطياده، وكم من حيويّة وهنت باستهلاكها، وكم من دفء ابترد بتحييده!.
إنّ نظرتك لمصدر الجمال ورموزه، تعكس شخصيّتك، إذا ما كانت طامعة أو طامحة، حيوانيّة أو إنسانيّة.. كما أنّ استغلال الجمال أو استثماره في التسويق، والتعميم، والابتذال ليس فعلاً إنسانيّاً.
صحيح أنّ ماهيّة منبع الجمال، تؤثّر في ما توحي به، أو تدعو إليه؛ فهناك من تُفكّر بسموِّه، وتخجل من نفسك، إذا ما راودتك حياله بأمر آخر؛ وهو لا يستحقّ! وهناك ماتعطيه قدراً من الرقيّ، أو تفكّر في افتراسه؛ ليظهر لك خطؤك، بعد قليل أو كثيرٍ من مقاربته، أو معاينته؛ كما أنّ من الجمال ما يظهر بموقعه وشروطه وأحواله، وظروفك وحيثيّاتك، ولدى تغيّر أيّ منها، قد يُفتقد الجمال أو يزول!.
ومن المهمّ؛ بل الأهمّ أن يكون لدى المرء ملَكات، تقدَر الجمال من دون ضغط العواطف أو الحاجات، تساعد على التمييز أو التحليل، أو التوصيف الحقيقيّ غير المبالغ به، أو غير المنحرف. وهو يختلف أيضاً عن الموقف منه تأييداً أو رفضاً. وهذا ليس يسيراً، ولا متاحاً دائماً؛ لأنّنا محكومون بمواقف مسبقة أحياناً، وأفكار مهيمنة، قد تفرضها البيئة، أو الثقافة السائدة، أو الغرائز أو النزوات التي تشوّش المشهد، وتعكّر التفاصيل، ويبقى الأمر رهنَ الحالة والشخصيّة، والقدرة على مواجهة المثيرات الداخليّة، وهي فاعلة، والخارجيّة وهي ضاغطة؛ ليبقى الجميل جميلاً، يستحقّ التقدير والاحترام!.