المسلسل التلفزيوني بين الفن والبزنس
فنيا يعتبر المسلسل الدرامي حاليا أحد أنواع الدراما التي عرفها “أرسطو” بأنها محاكاة للواقع، وذلك من خلال سردها الحكاية التي تصاغ على شكل أحداث متعاقبة في كلام – حوار- له خصائص معينة ويؤديها ممثلون، حيث اتخذت الدراما أشكالا مختلفة من عصر إلى عصر، تناسبا مع التطور الطبيعي للمجتمع ومع ما ينتج عن هذه الحركات الاجتماعية من فكر وقيم. وليس هذا أمرا غريبا إذا أخذنا في الاعتبار أن فن المسرح أحد أهم وأقدم أشكال محاكاة الواقع عبر الدراما التي يقدمها، لطالما نهل مواضيعه من المجتمع ليرتد مرة أخرى ويصب فيه، وكما هو معروف فإن الدراما كفن من فنون التعبير ترتبط بقدرة الإنسان منذ بدء الخليقة على التعبير عن نفسه وعن مكنونات بيئته الطبيعية والاجتماعية وقد اتخذ هذا التعبير شكلان: تعبير خارجي وتعبير داخلي يتفاعلان في علاقة جدلية، ليأتي الشكل الخارجي بمثابة تعبير حي عن هذا الصراع الذي غالبا ما يحدد الوعي الذاتي أو العام.
تاريخيا ارتبط ظهور فن المسلسل التلفزيوني المكون من عدة حلقات بظهور التلفزيون، الاختراع الجديد القادر كل يوم على ابتلاع أكثر من 20 قصة مهما كانت أنواعها وأحجامها، وساعات البث التي كانت تكتفي أسبوعيا بعرض فيلم أو مسرحية، صارت أطول بأضعاف ما سبق، وبالتالي صارت الحاجة ملحة لنوع هجين من أنواع الدراما، لا هو سينما ولا هو مسرح، فجاء المسلسل التلفزيوني كحل عملي لهذه المشكلة، وهكذا ارتبطت الشاشة الفضية رويدا رويدا بهذا الفن، حتى صار الأشهر والأكثر متابعة وحضورا بين جميع الشرائح، وبالتالي صار من الغباء التجاري تجاهل هذه الهبة العظيمة في تصريف الإنتاج مهما كان رديئا، والعمل على فيلم سينما لا يستطيع أن يؤمن عرضه ولو ربع تكلفته المادية، أو عمل مسرحي سيشاهده بأفضل الأحوال ألف شخص، بينما المسلسل فملايين ينتظرونه، وما دال الأمر كذلك، فما الذي يمنع إذا من ضخ عشرات بل مئات الأعمال التلفزيونية التي لها “رغيبة” مهما بلغت ساديتها أو هزليتها ومحتواها، فهذا أصبح سوقا وهو خاضع لمزاج السوق في العرض والطلب.
ولكن هل الدراما التلفزيونية المتسلسلة “المسلسل” حقا عمل فني؟
الأعمال الدرامية التلفزيونية المتسلسلة والتي تمتد على أكثر من 25 ساعة تلفزيونية، موزعة على 30 يوماً للمشاهدة، هي في حقيقتها خلل جيني في “د ن ا” الدراما” التي هي في أساسها “قصة- حكاية” تحدث دون انقطاع في الزمن الحقيقي، وهذا ما يجب أن تفعله بالزمن المفتعل للدراما، والذي سيصبح زمنها، زمن القصة.
أولى علائم هذا التشوّه الجيني هو زمن القصة، الذي تغيّر في الدراما التلفزيونية مفهومه وجوهره، فالزمن وحدة لا تنقطع، وانقطاع الزمن يعني نهاية القصة، بغض النظر إن كانت قد قالت ما تريده أم لم تفعل. اليوم نحن أمام ثلاثين حلقة، مدة كل منها 45 دقيقة، أي زمن ووقت مهدور على حكاية واحدة –بغض النظر عن جودتها أيضاً – يكفي لحكاية ثلاثين قصة وأكثر.
الخطير في هذا الخلل الزمني أيضاً أنه يضرب إحساس الناس –عبدة التلفزيون-بأهمية الزمن، فيغدو زمنهم مثل فنّهم مشتتاً ومقطّع الأوصال –حال الدراما التلفزيونية-، فلنتساءل قبل أن نسوق حجتنا على ما نقول: ما هو الوقت المثالي لحكاية قصة؟ أطول وأعقد قصة يمكن أن تُحكى في ثلاث ساعات سينمائية أو مسرحية، حيث إن زمن العمل السينمائي أو المسرحي هو الأكثر ملاءمة لتقديم القصة، فما الذي يجعل القصة التي تحمل الشروط الفنية ذاتها “بداية– ذروة- نهاية” قابلة “للمط” من ثلاث ساعات مثلاً إلى 35 أو 30 حلقة، وحتى إلى مئة حلقة، مدة الواحدة منها قرابة الستين دقيقة؟ “كاسندرا” مثلاً.
هذا السؤال الجواب عنه عند شركات الإنتاج التي ربطت الدراما العربية في شهر رمضان –سوق عكاظ الدراما- بعد أن صار المطلوب سجن الناس أطول فترة ممكنة في بيوتهم، فترة أطول من الوقت المعتاد، وبالتالي غربة أكثر عن الحياة والناس والتواصل الفعلي والحيّ، ومن لهذه المهمة إلّا التلفزيون، وما يقدّمه من أعمال منوعة، أهمها المسلسلات التي راحت تتكاثر كالفطر؟ التلفزيون الذي وصفه اللسان الجمعي الشعبي العفوي بكونه “شيطاناً ملوناً”، ووصفه المفكرون والفلاسفة والكتّاب بـ”طاعون العائلة”، فعوض ساعتين أو ثلاث لمشاهدة فيلم سينمائي، أو عمل مسرحي، أهم ما في كلّ منهما، أن على من يريد أن يتابعهما، أن يذهب إليهما، في حين نجد الحالة عكسية ومريبة تماماً في التلفزيون وما يبثّه ومجاناً أيضاً، كحال القنوات التلفزيونية التي تديرها شبكات ضخمة من رؤوس الأموال العالمية، والتي بالتأكيد لا تعتمد على الإعلان فقط لتستمر، بل وعلى ما تقدّمه لها من دعم مؤسسات ودول لتتبنى مقولة مالكها، هكذا وتحت ضغط من رأس المال الجاهل والخبيث أيضاً، إضافة للحرب الفنية الخفية بين الفنون، تحولت القصة الدرامية بشكل نهائي، وصارت شيئاً شبيهاً بمفهوم الدعاية المكررة الطويلة، التي تعتمد على الحسناوات والوسيمين للنهوض في قصة تافهة بلا معنى –حال الدراما العربية المشتركة الجديدة- تبدلت من حكاية لها ألقها المحكوم والناجح، لأنها تقيّدت بشروطها الفنية اللازمة والضرورية، التي عرفها الناس وفهموها وأحبوها –انظروا أهم وأنجح الأعمال السينمائية والمسرحية- تحت ضغط ملء ساعات البث التلفزيوني الذي لا ينتهي، إلى عدة قصص محشورة في ساعات تلفزيونية بلا معنى، والشخصية الرئيسية صارت شخصيات، فلم نعد نرى إلّا البطولات المشتركة التي كان لها دور كبير الضرر في حكاية الحكاية.
عندما تكون القصة جيدة، يكون العمل الدرامي المبنيّ عليها جيداً بالضرورة، إلّا أن هذا لا ينسحب على الدراما التلفزيونية التي نسفت مفهوم القصة، بنسفها لزمنها، ومطمطتها حتى صار وارتخت نهائياً.
وهنا يأتي الجواب على السؤال المطروح بكونها ليست فنا وهي كذلك في نفس الوقت!، وهذه الحيرة في التوصيف، تكفي لوحدها للقول أن هذا الخلل الجيني أو هذا العمل الهجين، ورغم أنه لا يتمتع بشروط الفن المثالية حسب نوعه، إلا أن ما يطلبه الناس وما يريده القابعون خلف الشاشات، وبين النوع الأصيل والنوع الهجين، يتفوق الهجين هنا، ولا عجب في مزاج هذا الزمان وفي تقلبه، فالحياة نفسها تغيرت فيها المفاهيم والقيم والأفكار، فلا عجب أن تجيء حكاياتها أيضا متغيرة!.
تمّام علي بركات