ثقافة

“جفرا” قصيدة أم قضية وحياة!

عديدة هي الأسماء التي اخترعها الشعراء الكبار من بنات أفكارهم قبل أن يكون لها وجود سابق في أية لغة، وجعلوها ببديع نتاجهم الشعري أسماء دارجة بين الناس، لها وقعها الخاص في دواخلهم، أيضاً تم تحويل بعضها إلى رموز تدل بشكل حاسم على قضية، أو شأن ما له حضوره وثقله في الوجدان والضمير الإنساني، كما اسم “يارا” الذي اخترعه “سعيد عقل”، وصار اسماً يحبه الناس، ويختارونه من بين ملايين الأسماء الأكثر رسوخاً في الذاكرة الجمعية منه، خصوصاً بعد أن غنته “فيروز” في الأغنية الشهيرة التي يقول مطلعها: “يارا الجدايلها شقر، فيهم بيتمرجح عمر”.
أيضاً قام العديد من الشعراء الكبار من خلال قصائدهم باستحضار الكثير من الأسماء التي بقيت نائمة في المعاجم لقرون دون أن يدور في خلد أحد ما أن يُقدم على خلقها مرة أخرى، وذلك بإعادة سبكها في قالب لغوي بديع، وربطها برمز أصيل له حضوره الواثق في الوجدان الجمعي، كما فعل الشاعر “عز الدين المناصرة” مع كلمة “جفرا” حين قال في قصيدته الشهيرة “جفرا الوطن المسبي”: “من لم يعرف جفرا فليدفن رأْسه/جفرا الوطن المسبي/الزهرةُ والطلْقةُ والعاصفة الحمراءْ/جفرا/إنْ لم يعرفْ من لم يعرفْ غابة تُفّاحٍ/ورفيفُ حمام وقصائد للفقراءْ”، والتي نشرها عام 1976 بعد استشهاد حبيبته الطالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت “جفرا النابلسي” في العام نفسه جراء غارة صهيونية، والبعض يقول إنها استشهدت في خضم أحداث الحرب اللبنانية في ذلك العام.
أحدثت قصيدة “جفرا” ضجة كبيرة بعد أن نشرها “المناصرة”، حيث قام العديد من الفنانين بتقديمها إما كفيلم سينمائي/كأحد الأفلام البلجيكية الذي تضمن الأغنية بصوت “مارسيل خليفة”، وعرض في مهرجان موسكو السينمائي في ثمانينيات القرن الماضي، أو كعرض مسرحي، كالعديد من العروض المسرحية العربية والفلسطينية التي حملت هذا الاسم، كما أنشدها أحد نجوم المسرح الفرنسي باللغة الفرنسية في مسرح موليير في باريس، بعد أن ألقاها الشاعر “المناصرة” بالعربية، بحضور كل من “فدوى طوقان”، و”محمود درويش”، وأيضاً (جاك دريدا) فيلسوف التفكيكية الفرنسي الذي وصفها بقوله: كأنها السحر بعينه.
انتشرت القصيدة بشكل كبير، وتُرجمت إلى أكثر من 20 لغة، ولحنت وغناها الكثيرون، منهم “خالد الهبر”، ومن خلال هذه القصيدة انتشر اسم “جفرا” الذي يعني لغوياً “الشاة الصغيرة المكتنزة”، انتشاراً كبيراً، كان له الكثير من الآثار التي تركها في النفوس المتلهفة لرمز، ومنها: نشوء فرق شعبية، ومحلات تجارية، ومواقع الكترونية، تحت اسم (جفرا)، كذلك تأسست إذاعات، ومحطات تلفزة، وعدد كبير من المقاهي التي حملت الاسم لرمزيته، وخصوصيته، حتى إنه ظهرت في (فلسطين- 48) حركة طلابية تحت اسم (جفرا)، وظهرت روايات، وقصص، وقصائد، ومدوّنات تحت اسم جفرا، والأهم أن عشرات الفتيات في سورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن، وتونس، والجزائر، والمغرب، أطلق عليهن اسم (جفرا).
أيضاً من آثار انتشار القصيدة المذكورة، إعادة التذكير بنوع غنائي تراثي فلسطيني يُدعى “الجفرا” الذي أداه الفنان الفلسطيني “أبو عرب” باقتدار.
ولقصة نمط “جفرا وياهالربع” الموسيقي التراثي، حكاية مثيرة بدورها لم تتكشف إلا عام 1982، عندما لاحقها “عز الدين المناصرة” ليعرف خفاياها، والتقى بصاحبها، وببعض من عايشوا انطلاقتها.
تقول الحكاية إنه في ثلاثينيات القرن الماضي كان هنالك راع شاب، قوي البنية يعيش في قرية “الكويكات” في قضاء عكا، يُدعى “أحمد عبد العزيز الحسن”، وكان الرعاة مشهورين بالزجل، وبالعزف على آلة الشبابة، وكان “أحمد” يحب ابنة عمه، وأراد الزواج بها، لم يكن اسمها “جفرا”، إلا أنه لقبها بذلك، فهو راع، وأجمل منظر بالنسبة إليه هو منظر الشاة الصغيرة المكتنزة، وعندما طلبها، وافق أهلها، ولكن في اليوم التالي للزفاف عادت إلى أهلها باكية، وبعد ذلك بأسبوع تم الطلاق.
لا أحد يعرف ملابسات ما جرى، لكن يُقال إنها هربت ليلة الزفاف لأنها كانت تحب ابن خالها الذي تزوجته لاحقاً.
ويُقال أيضاً إن “أحمد” ضربها ليلة العرس على طريقة اقطع لها رأس “القط”، فلم تتحمّل الفتاة هذه المعاملة السيئة وتركته، إلا أن القصة الأولى أكثر مصداقية، فكما تذكر المراجع، كان أهل “الكويكات” يتكتمون بشأن هذه القصة، وكأنها نوع من الفضائح إلى أن كشف النقاب عنها عام 1982.
بعد وقوع الطلاق والفراق، كان “أحمد” يراقب “جفراه” ويراها تنزل إلى العين لتملأ الماء لزوجها الجديد، فكان يعزف على شبابته، والنار تخرج من صدره، ويزجل على لسانها:
جفرا ويـاهالربـــع بتصيح يـا أعمامي
ما باخـــذ بنيكــم لو تطحنوا عظامي
وإن كانت الجيزة غصب بالشرع الإسلامي
لرمي حالي في البحر للسمك في الميّا.
واصفاً رفضها له ليلة الزفاف وهروبها.
طبعاً لم يكن يذكر اسمها الحقيقي حفاظاً على التقاليد والسُمعة، ومن بين الأبيات التي كان ينشدها واصفاً حبّه الشديد لها:
جفرا يا هالربع نزلت على العينِ
جرّتها فضة وذهب وحملتها للزينِ
جفرا يا هالربع ريتك تقبرينــي
وتدعسي على قبري يطلع ميرامية (وفي قول آخر: يطلع نهر ميّا).
قصة حب من طرف واحد صنعت جزءاً من التراث، وقصة حب أخرى كشفت النقاب عن ذلك التراث، وأصبح اسم “جفرا” جزءاً من الهوية الفلسطينية، والنمط الغنائي” جفرا وياهالربع” صار مثل الدلعونا، والميجانا، والعتابا، الفنون المشتركة بشكل عام في بلاد الشام.
نماذج عديدة عن هذه الحالات الإنسانية التي يعبّر عنها “اسم” حالات ارتبطت بالمصير والهوية كما جفرا، قام الشعر سواء العربي، أو الغربي، بجعلها وقائع حية، ورموزاً لا ينضب إيحائها، “يارا” مثلاً التي ستدل دائماً على الطفولة الرقيقة، و”جفرا” التي ستبقى إلى الأبد رمزاً من الرموز الأكثر شعبية لفلسطين العربية أبداً.

تمّام علي بركات