ثقافة

… الانتحار بظلمة الأمل

تصدرت مسرحية ستاتيكو المشهد الثقافي في دمشق منذ عرضها الأول في منتصف هذا الشهر، وهي من تأليف شادي دويعر وإعداد وإخراج جمال شقير وتمثيل كل من كفاح الخوص ونوار يوسف ومحمد حماده وسيمون مريش.
تبدأ المسرحية بشكل أساسي من شخصية “حكم” التي يؤديها كفاح الخوص وعزمه على الانتحار.  فحكم يجد في الانتحار باباً خلفياً سريعاً للهروب من الحياة ولكن الطريق إلى هذا الباب لا يبدو سالكاً ولا وحيداً، فيدخل المحيط متمثلاً بالجيران على الخط سواء من خلال ضوضائهم أو حياتهم  التي لا تقل مأساوية في العمق عن واقع حكم، إذا ما ألقى عليها نظرة أكثر تفحصاً وعطفاً.
دخول نوار يوسف, بشخصية أمل, إلى بيت حكم بانتظار العثور على فردة حذائها التي فقدتها في بيت جاره على عجل يجعلها أسيرة لحذائها, بحالة مشابهة لزنزانة الاكتئاب والسوداوية التي تلف حبلها على رقبة حكم. ويختلف تعاطي كل شخصية مع قسوة الواقع, فلجوء حكم إلى الموت كحل نهائي وحيد يقابله انتظار أمل لحدوث معجزة تغيّر حياتها وتتمسك بها كالغريق الذي يتشبث بقشة حتى لو كانت على حساب حياة إنسان آخر، ويظهر على النقيض تماماً موقف الجار الشاب المنغمس في الوضع المأساوي حتى تحوّل إلى كائن مشوه فاقد لجزء من إنسانيته، كشبح مبتذل معلق على جدران الصورة القاتمة، فيعرض العمل بحساسية عالية تأثير قسوة الحياة ومشاكلها على شخصياته مما يجعلهم يستسلمون للموت كحكم، أو يتعايشون مع أصوات تحطم آخر فقرات إنسانيتهم في قبضتها كما في حالة الجار الشاب وصديقته أمل، فتتوالى الضغوط وتزداد مع كل عودة إيقاعية لسيمون مريش، لتخرج كل شخصية من صدفتها، وتبلغ ذروة التحرر من الألم عند لحظة إدراك حكم أن الانتحار ليس مجرد هروب كطبق بارد متواضع، بل إنه كوجبة مشبعة للأبد تعتقه بشكل نهائي من كل التزام بالحياة، ومن هذه اللحظة تنطلق وصلة رمي الكتب والرقص على الإيقاع المتسارع، ولكن العمق في تركيب شخصية حكم يجعله يشعر حالما وضع ثقل الواقع عن كاهله بأن هناك ما يستحق الحياة، وتماماً بشكل مشابه لمن صعد جبلاً ليرمي نفسه من قمته فشعر بجمال الكون وقرر التراجع عن قراره، لكن قدمه انزلقت وهوى إلى عمق الوادي.. هذا ما يحدث في “ستاتيكو” فبعد أن نستشعر تدريجياً التحول في قرار حكم وعزوفه عن الانتحار ينتهي بنا الأمر لنشهد مقتله المجاني على سبيل الخطأ, وخروج الأمل بالتغيير من النافذة.
عني الديكور في المسرحية باهتمام بالغ, فتوسطت الخلفية نافذة لغرفة حكم المطلة على المدينة التي جاءت مشابهة لدمشق، مقربة المسافة بين المسرحية والواقع، وطغت الألوان الرمادية لتعطي انطباعاً قوياً بالبؤس والكآبة وضيق فسحة الأمل، وعززت رتابة الأثاث والديكور بما فيه من طاولة يعلوها مسجلة ومكتبة وأريكة يتيمة، وحدة الشخصية وحالتها  السوداوية “المشؤومة”, ولوحة “جرنيكا” لبيكاسو المعلقة على الجدار حملت إلى المسرحية رمزية وإيحاء أكبر لمأساة الحرب والمعاناة. أما الإضاءة فكانت باهتة تشبه حالة الضيق والفوضى التي تتملك الشخصيات، والموسيقا الإيقاعية التي كانت تظهر حيناً ثم تخفت حيناً آخر، فتميزت بطابعها المستفز الإلحاحي، ووسعت الفضاء المسرحي ليصل إلى بيوت جيران آخرين ليسوا أقل إزعاجاً. ومن أهم عوامل تميز العمل الأداء عالي المستوى للممثلين الذين تفاعل معهم الجمهور بشكل كبير.
وكان من المضحك المبكي انقطاع الكهرباء في نهاية العرض، مما جاء ولو عن غير قصد ككسر للجدار الرابع، لتساير الحادثة فكرة الأمل في أحضان البؤس التي يطرحها العمل مما يضع الجمهور القادم في زمن الحرب لحضور ستاتيكو في مكان “حكم” ويلقي لهم سؤالاً شخصياً عن موقف كلٍ منهم في وجه الواقع المر، هل يستسلمون؟ أم يتابعون عروضهم الخاصة في الظلام بانتظار بصيص النور.
سلمى طلاع