ثقافة

امرأة الأرض تنبت الملح سنابل.. أزهاراً وقصائد جميلة

حتى في الحرب يمكن للأدب، والشعر منه، أن يكون فضاء للجمال، للروح.. هذا ما نخلص إليه بعد قراءة المجموعة الشعرية الرابعة للشاعرة “ليندا إبراهيم”، والمعنونة: “أنا امرأة الأرض” الصادرة عن اتحاد الكتّاب العرب ضمن سلسلة الشعر لعام 2016.

أتى عنوان المجموعة كناية عما يسم قصائدها بنزوع صوفي  ناجم عن قلقل وجودي متباين الحدة تبدى في كل القصائد تقريباً، حتى تلك العاطفية، وهو ما رشح من النص الأول، والتي افتتحت المجموعة به على سبيل المقدمة بعنوان: “نص البدء.. نص الختام”:

لابد من سفر إذاً..!..

فالروح تنشج..

واشتياق العاشقين يذيب قلبي مثل صوفي براه العشق..

فاذكر الأناشيد القديمة في ظلال الدوح.

والصوفية قد تخرج عن قاموسها المعهود في التعبير عن حالة الوجد، المكابدة، أو التماهي، خاصة في الشعر، رغم أن أغلب الصوفيين كانوا شعراء، أو كتّاباً، وهم من قنن تلك الألفاظ والمصطلحات، وأعطاها عمقها، ومؤداها الدلالي، وشحنتها المعنوية، ففي قصائد المجموعة ترد ألفاظ ذات دلالات صوفية مألوفة ضمن سياق الوحدة اللغوية للقصيدة، وبما لا يتناقض مع موضوعها، وأجوائها:

هي منذ بدء البدء كانت..

أنثى.. من الفيض العلي الغامض القدسي كوثرها

وعذب رضابه.

توزعت القصــائد على مواضيع عدة مألوفة أتت عناوينها أيضاً كدلالة مباشــرة لمضمونها: (سفر، مدله، زليخا، ظهور، أمي)، ومن الملاحظ أن أغلب هذه العناوين قامت على مفردة واحدة، وهو ما ضيّق الطيف الدلالي لها، حتى وإن تباينت طرق المعالجة، والزاوية التي بادرت منها الشاعرة موضوع القصيدة.

تفاوت طول النص من قصيدة لأخرى، بعض القصائد شغلت صفحتين، والبعض الآخر صفحة واحدة، بينما هناك نصوص لم تتجاوز الشطرتين، كما في النص المعنون: “صباح”:

صباح من الفقد يوغل فيّ

تماماً كوحشة روحي.

هذه النصوص لابد أن تكون على درجة عالية من التكثيف، وهو ما يترك أثراً دلالياً ذا طابع مختلف  قد يكون أحدّ وأعمق، وهذه النصوص القصيرة لا يمكن نسبتها كلها إلى القصيدة الومضة بسماتها المعروفة، فهي رغم أنها مكثفة، غير أن نهايتها مختلفة كونها مفتوحة على الأغلب، ولا تحمل عنصر المفاجأة.

لا تتوقف جمالية النصوص على طولها وقصرها، وهذا واضح في مجمل المجموعة، حيث الموضوع، والشحنة الانفعالية الشاعرية، ما يشكّل الأساس لذلك.

من الملاحظ أن ثمة قصائد أسست على أسماء بعينها، كالقصيدة التي عنوانها: “مكابدات المتنبي الأخيرة”، والتي تنضم على تناص واضح، ليس على المستوى اللفظي الحرفي، بل على المستوى الموضوعي والعاطفي الانفعالي، وكأنها تحيين، واستعادة لمواقف مر بها المتنبي، أو لإحساس فاض به وبثه إلينا في قصائد معروفة.  في القصيدة لغة مطعمة من قاموس الشاعرة، وقاموس المتنبي، وجزالتهما أيضاً، مع اختلاف البناء والشكل الشعري.

قصيدة أخرى خصت بها الشاعرة أحد الشعراء الكبار دون أن يكون عنوانها، هي قصيدة “طفل الأناشيد”، والتي أهدتها إلى روح الشاعر الكبير سليمان العيسى، تتأسى الشاعرة على غيابه بلغة فيها الكثير من الأسف الذي يعمقه الواقع الحالي:

أوليس أفضل أيها القلم النبيل

بأن بقيت مغرداً

في ليل أمتنا الطويل.

وكأنه لم يبق في هذا الليل من مجال للبصر، فليس ســوى الإنصـــات للجمال فسحة في حلكته، لكن حتى السمع صار يأساً لغياب من يغرد.

قصيدة ثالثة بعنوان: “سأمضي جميلاً”، موجهة إلى الشاعر الراحل محمد حمدان،  كتبت بفيض وجداني استبطن إحساس الشاعر الراحل في لحظة رحيله.

لغة المجموعة غنية متنوعة، وهي دلالة على ثراء قاموس الشاعرة اللغوي، الوحدة اللغوية متباينة في تركيبها، أتت أغلبها مناسبة للشحنة الانفعالية الشعرية، وهي تتسم بالقوة، والجزالة، والاختزال، بحيث يتعذر حذف أية لفظة منها. لا تبدو الصورة الشعرية هاجساً عند الشاعرة، فأغلب القصائد عملت على التجريد، مفعمة بأحاسيس الحالات التي عالجتها، كما في قصائد: وجد، قتول، مناجاة، ما دلني أحد عليك، دعاء. هناك بعض القصائد حفلت بصور مركبة أغنت الأثر الجمالي لها، كما في قصائد: خذني معك، وطن الخالدين، هموم الروح.

قصيدة امرأة الأرض التي أخذت المجموعة عنوانها، شكّلت ذروة المجموعة الجمالية، وامرأة الأرض هنا تبدو أماً كونية، تخص المتعبين المقهورين المساكين بحنانها، رغم  ما مر عليها من محق وجور من غزاة أجلاف طغاة، هذه الأم الأرض التي تبدو في طور اليباب لا تلبث أن تنبعث وعداً جميلاً بكل ما هو جميل:

فيا أيها الجائعون

أنا امرأة الأرض

قلبي رغيف لكم فكلوه..

دمائي نبيذكم فاشربوها

وسيروا إلى غدكم باسمين.

تأخذ امرأة الأرض هنا دور الفادي المخلص، المسيح في اعتبار جسده خبزاً، ودمه نبيذاً، وفي إنارته لدرب الغد، فهي هنا قربان للجائعين المحرومين من الحنين من أجل حياة أفضل.

ختام المجموعة أتت كافتتاحها بالنص نفسه: “نص البدء.. نص الختام”، وختام الختام كان بكلمتي: “لابد من سفر”، والسفر هنا ليس مسافة واجتياز، بل سفر الروح، ونزوعها إلى المطلق. المجموعة أتت تأكيداً على أصالة الشعر في تناول القضايا الكبيرة الوجودية، والإنسانية، الشعر الحقيقي الجميل.

مفيد عيسى أحمد