ثقافة

عبد السلام العجيلي في ذكراه طبيــــبٌ محـــارب وأديـــب في الأعلام

حين سئل وهو في المرحلة الابتدائية، عمّا يود أن يكون في المستقبل؟ أجاب وقد شغله اضطرارهم السفر باتجاه مدينة حلب طلباً للعلاج، أنه يريد أن يخفف من آلام المرضى: “أريد أن أصبح طبيباً” وهو ما كان؛ فقد امتهن الطب فيما بعد بينما جعل الكتابة سره الجميل، سلوكاً ينتهجه في حياته اليومية. وهو ما سئل عنه فيما بعد، وكيف ينظر إلى الأدب والكتابة: “أنا لا أنظر إلى الكتابة الأدبية كعمل؛ بل أنتهجها في حياتي كنوع من أنواع السلوك” إذ كان ينشر في الصحف المصرية واللبنانية وبعض الدوريات المحلية بتواقيع وأسماء مستعارة الأمر الذي كشفه للعلن الأديب سعيد الجزائري.
يرجح أن الطبيب الأديب، والسياسي الوزير عبد السلام العجيلي؛ ولد في عشرينيات القرن الماضي، إذ لم تكن لمدينته أن تمتلك سجلات مدنية ثابتة في حينه، وهناك على ضفاف الفرات كبر؛ ابن الرقة وأخذ علومه الأولى، ضمن عائلة كانت من أوائل العائلات التي تركت حياة الرعاة لتنصرف إلى الزراعة؛ وفي مجتمع تسود الأمية غالبية أفراده؛ انصرف أبناء عائلته إلى طلب العلم والقراءة التي كان أدمنها العجيلي، ليضطر إلى أن يشد الرحال حاله حال الكثيرين من أبناء المنطقة باتجاه حلب، البعض منهم طلباً للعمل وآخرون أملاً في علاج أمراض ألمّت بهم، بينما قصد المدينة الكبيرة لاستكمال دراسته الثانوية في العام 1929، بعدها ستكون دمشق وجهته الثانية، فيحقق طموحه بدراسة الطب في معهد الطب العربي.
وبالطبع لم يكن لتلك المرحلة أن تمر دون أن تدخل السياسة ضمن نشاطاته اليومية خصوصاً أنها أتت في الفترة التي قامت تركيا بضم اللواء السليب، ليكون في صدارة التظاهرات والتحركات الداعية للوقوف في وجه الجريمة الحاصلة.

للسياسة حضور
بعد التخرج لم تكن لعودته إلى الرقة أن تطول إذ سرعان ما ناداه نشاطه السياسي إلى دمشق، لخوض غمار الانتخابات النيابية فيكون واحداً من أصغر البرلمانيين السوريين، ثم تبدأ أهم مراحل حياته ونضاله المتعلق بالقضية الكبرى فلسطين، في العام 1947 حين قضت الأمم المتحدة وأقرت تقسيم فلسطين، لتثور ثائرة الغيورين والعجيلي من بينهم لتشكيل جيش الإنقاذ، في محاولة سريعة ويائسة للحيلولة دون ما يجري، والذي سيكون على مدى عشرات السنوات الآتية، الجرح المفتوح على الألم والانكسارات والخيبات التي خبرها وشهدها، بعد انضمامه إلى جيش الإنقاذ، تلك التجربة التي كانت المحرض لكتابة “كفن حمود” و”بنادق في لواء الجليل” و”بريد معاد”.

الكتابة سلوك
رغم أن الكتابة لم تكن مهنته؛ كما قال إلا أنه ترك للمهتمين بالأدب نتاجاً تجاوز الخمس وأربعين مؤلفاً كانت خلاصة تجاربه حياتياً وسياسياً ومهنياً، ومشاهدات يومية فريدة لفتته وأسست لذاكرته ووعيه، كان أهمّها مشهد خروج الزعيم السوري إبراهيم هنانو من سجن الفرنسيين في حلب، رافعاً رأسه بكلّ شموخ، وقد أثبت أنه مناضل وطني، وصاحب قضيّة عادلة، وندّ للحكومة المستعمرة لأرضه، وهو يتمتّع بكلّ حقوقه. مشاهدة سحرته إذ رأى قوّة الحقّ في شموخ زعيم لم يهادن عدوه، ولم يقدّم تنازلاً، تحت أي من المسميات الخادعة، تلك الحادثة التي شهدها العجيلي وهو في أول عشرية من حياته، كانت دعامة ثوابته الإنسانيّة والأخلاقيّة والوطنيّة، والتي كان يرددها على الحاضرين أنّى تسنى المجال.
تنوع في أدبه مابين القصة، والرواية والمقالة والأدب المتعلق بالرحلات، أدباً ضمنه رؤاه الفلسفية والشعرية والسياسية، فكانت “الخائن والرصيف العذراء السوداء، وعيادة في الريف” من أهم نتاجه القصصي، بينما قدم في أدب الرحلات “دعوة إلى السفر، وحكايات من الرحلات” أما في الرواية التي كانت الأهم فكان له “باسمة بين الدموع، أزاهير تشرين المدماة، ألوان الحب الثلاثة، المغمورون التي كتبها في العام 2001” وقلوب على الأسلاك تلك التي قال عنها المستشرق الفرنسي جاك بيرك: “يمكن لها أن تصنف بين أقوى ما ظهر من نوعها في الأدب العربي”. بينما رأى جان غولمييه في أدبه أنه يضاهي نظراء له عالميين: “غوته ستاندال وفلوبير؛ أسماء أعلام في الأدب مشهورة، وعبد السلام العجيلي يستحق أن يشبّه بأساتذة فن الرواية هؤلاء”، ليرى لويس يونغ فيه المجدد لأدب المقامات فيقول: “مقامات العجيلي ليست إحياء للشكل القديم فحسب، بل هي حياكة في نول قديم، بخيط جديد”.

أروع بدويّ
في العام 1962 تولى العجيلي منصب وزير الثقافة، وإليها جمع الإعلام والخارجية؛ كان ذلك في عهد الانفصال، في الطب يسجل له دور متميز في مكافحة شلل الأطفال والقضاء عليه، عشق السفر والترحال فكان متعته للاكتشاف والمعرفة؛ ومعرفة النفس البشرية وجاب العالم من شرقه إلى غربه لكنه وكابن أصيل لا بد له من أن يؤوب إلى أحضان الوطن وإلى الرقة التي لزمها حتى رحيله في العام2006، يقول وقد اتهمه البعض بالتميز عن الآخرين والعيش بعيداً عنهم  “كتب أحدهم في جريدة النقّاد عنّي أنني أعيش في برج عاجيّ، فقلت لهم تعالوا إلى الرقّة وانظروا بعينكم لتدلّوني أين هو البرج العاجيّ! كان لدينا برجان من الطين من بقايا أيّام هارون الرشيد، ونحن نغوص في الطين في شوارع البلدة حتّى الركب شتاء ويعمينا الغبار صيفاً، فهل أعيش في برج عاجيّ؟ السيّد المسيح يقول في الإنجيل “ادخلوا من الباب الضيّق” وأنا أحبّ العسر لأنني أجد فيه مجالاً للإنتاج ولمحاولة التغيير، ولا أريد أن أتميّز عن غيري لمجرّد أني كسبت شيئاً من الثقافة، فأهجر بلدي وأهجر أهلي”.
ترجمت أعمال العجيلي إلى الإنكليزية والفرنسية، الإسبانية الإيطالية والروسية، وتم إدراجها في مناهج التعليم في عدد من المدارس والجامعات العربية، إذ يعد بحق مرجعاً في الأدب العربي، يستحق أن يقول فيه نزار قباني: “هو أروع حضري عرفته البادية وأروع بدوي عرفته الحاضرة”.

بشرى الحكيم