ثقافة

في رحيل الناقد الفلسطيني بشار إبراهيم: عين على الســـينما المختلفـــة

برحيل الناقد والأديب الفلسطيني بشار إبراهيم فقدت السينما العربية أحد أهم نقادها، وأكثرهم معايشة لواقع ثري أمد الثقافة العربية بمشاغلها التحررية من خلال قضيتها الأهم وسمتها الأهم إنسانية، إنها  القضية الفلسطينية التي أنتجت فعلا ثقافيا يستمد روحيته من ألق هذه القضية ومشاغلها النضالية، فالراحل ابن لأكثر من مخيم فلسطيني توزعت حول العاصمة دمشق، إنه اللاجئ الفلسطيني ابن قرية الخالصة في الجليل، وسادس أبناء العائلة المكونة من سبعة أولاد ترعاهم السيدة الأم التي يذكرها في مدونته” صورة أمي والسينما”، يلخص فيها معاناة الأسرة الفلسطينية المشردة من بلادها ورواية طفولته المكتظة بالألم إذ يقول:
“ولدتني أمي وكنت سادس أولادها السبعة الذين بقوا على قيد الحياة، قبل ذلك بعشرين سنة كانت أمي قد صنعت تفاصيل صغيرة من حكايتها الخاصة التي لم تتم روايتها على النحو اللائق، منذ أن خرجت من طفولة يُتمٍ قلقة، ليتم تزويجها صغيرة بعد أن قتل أبوها وزوجت أمها، لم تلتفت أمي كثيرا إلى الوراء حين أغلقت باب البيت ودست المفتاح في العصبة التي تغطي رأسها، لكنها بقيت ترنو بروحها إلى قريتها في الجليل لأكثر من اثنين وخمسين سنة، حيث العالم الذي تركته وخلقته مترعا بالوحشة وبالذكريات وعلى بعد خطوة من قبضة الاحتلال، الآن تماما أراها تنجب الأطفال وتربيهم وهي الأمية التي لم تقرأ حرفا في حياتها، ولم تتل سوى سورتين قصيرتين أو ثلاث، بقيت سبعين سنة ترددها في صلواتها التي لم تنقطع إلا على عتبة غرفة العمليات في مستشفى المواساة.. الآن أراها تماما تصر زوادتها من بيضة مسلوقة وحبتي بندورة، أو بقايا طبخة الأمس، وتذهب للحقول المجاورة للمخيم حيث العمل في التعشيب أو الحصيدة أو لقاط الحب.. قبل أن تركب الحافلة إلى مخيم خان دنون والعمل في الورشات الصغيرة للنايلون والبلاستيك وصناعة الشحاطات والأحذية البلاستيكية السوداء التي طالما أكلت من أقدامنا المتشققة.. الآن أراها فارسة في كل شيء.. فارسة إلا أمام نظرات أبي الغاضبة أو تحت وقع حزامه الجلدي العتيد الذي لم يكن يوفر صغيرا أو كبيرا.. أرى صورة أمي تنطوي في الذاكرة، يلفها الغياب، وتعاند النسيان.. لم يكتبها أحد.. لم يرسمها أحد.. لم يصورها أحد.. بل تكتفي أنها سينما الحياة”.
بهذا النص الشغوف بالواقع وبالحياة يصل الأديب والناقد بنا إلى مكانة مختلفة من الوعي الذي تبنيه الحياة. وصولا إلى عالم ترسمه السينما الجديدة – سينما الحياة وسينما الاختلاف التي لم تستطع مقارعة السينما السائدة التي تبني اختلافها وتحيله للنسيان، هذه السينما المختلفة هي الباقية في التاريخ، أفلام تثمر وتقصى وبالتالي لا يجوز أخذ رأي المشاهد العادي بها، لأن مشكلة المشاهد العادي يقيس نجاح الفيلم بمدى قدرة الفيلم على إثارة الضحك أو البكاء، أو الرعب أو مداعبة الرغبات، وإثارة الغرائز.. هنا يكمن تحدي السينما المختلفة إذ أنها لا تعبأ بكل هذا، وتبدو أنها تسير عكس السير في مجتمعات تعاني التخلف والأمية والجهل وتدني الذائقة الجمالية وفقراً في المعرفة البصرية، هنا نحتاج إلى وقت وصبر حتى يمكن تحويل المتلقي من مستمع للخطب العصماء أو الحوارات الطويلة، ومن قارئ للمعلقات أو السير الشعبية، إلى مشاهد متأمل للصورة، استقبالا وفهما وتأويلا. السينما المختلفة لا تحتفي بالنجوم.. هي سينما القضايا الكبرى تارة وسينما التفاصيل الصغيرة تارة أخرى، وقليلا ما تكون سينما الحدوتة، والحكاية والسرد الخيطي. يبدو أن قدر «السينما المختلفة» أن لا تكون على شيوع جماهيري واسع، ليس لأنها تقدم الجديد والمختلف عما اعتاده المشاهد فقط، بل لأنها لا تتوافق مع كسل التلقي، السائد لدى الجمهور، خاصة العربي، وبالتالي فهي تحتاج من المشاهد أن يمارس التلقي الفاعل والمتفاعل.. في «السينما المختلفة» يصحُّ القول إن المشاهدة هي عملية إعادة إنتاج النص السينمائي، وتفكيكه، واستخلاص مغازيه، واستكناه دلالاته ومراميه.
أكسم طلاع