ثقافة

“نزار قباني.. قافية شموخ قاسيون” .. اخضرار الشعر وبهاء الكلمة

بحضور السيد وزير الثقافة محمد الأحمد ومعاوناه، ونائب وزير الخارجية د.فيصل المقداد أقيمت ندوة الأربعاء الثقافي أمس في مكتبة الأسد بعنوان “نزار قباني.. قافية شموخ قاسيون”، التي كان مقرراً أن تقام الشهر الماضي بمناسبة الاحتفال في عيد المرأة وعيد الأم. حيث لم يقترن اسم شاعر عربي بالمرأة وبرموزها ودلالاتها كما اقترن اسم نزار قباني، فهو الشاعر الكبير الذي كان كلاسيكياً بين أهل الحداثة وحداثياً بين الكلاسيكيين، وكان صديقاً حقيقياً لكل من أصابه خذلان الحب ولا يمكن لمحب حقيقي نبيل إلا ودخل حديقة نزار قباني ليقطف منها وردة يضعها في خصلة شعر من أحب.

علامة مضيئة

وفي كلمة له تحدث الوزير الأحمد عن أول لقاء له مع الشاعر نزار قباني قائلاً: كنت طفلاً سعيد الحظ عندما التقيت بهذه القامة الإبداعية الرفيعة في منزل جدي، وقد سئل نزار يومها ماالشعر؟ فأجاب: ماالشمس؟ ماالمطر؟ ماالكواكب والنجوم والشجر؟، الشعر هو تلك المياه الجوفية المخزونة والتي تنتظر فرصة لتتجه كالبركان من باطن الأرض المالحة، الشعر هو تلك الطبقة السميكة من ملح البحر التي نغطي بها أجسادنا حرصاً أن لا تتعفن، الشعر هو ذلك الصراخ الذي نوجهه إلى الليل ليصبح نهاراً وإلى اليباس ليصبح اخضراراً وإلى الخنجر ليصبح ورداً، الشعر هو ذلك الانقلاب الذي يقوم به الشاعر من داخل اللغة والقناعات الثابتة لتصير صورة الكون أبهى وأجمل، الشعر هو غاية الحرية التي يسلمها الشاعر لشاعر آخر.

نزار قباني هو أحد الشعراء الكبار تمكن من إيجاد لغة تميزه عن باقي الذين عاصروه، في دواوينه نلمس الحرية في ولوج المعالم الضيقة على كل ما هو راكد ومستكين، نزار، وهو المحب للموسيقى في الشعر نجد أنه قصد قصيدة النثر في كثير من مجموعات، ضارباً عرض الحائط بالتفعيلة والعروض وكل ما هو تقليل من شأن اللغة بقوالب جامدة، وكان يجد دائماً تشكيلات وصياغات جديدة تمكنه من أن يتطور ويضع بصمة مضافة إلى بصمات سبقته، كان يؤمن بأن الشكل الشعري لا يمكن أن يكون وثناً لأن الأشكال لا تخلق الإنسان بل الإنسان يخلق أشكاله.

وأشار الوزير إلى أن نزار قباني أسس مع عمر أبو ريشة وأدونيس ونديم محمد وبدوي الجبل للغة لا يمكن إلا وأن تكون حداثية، وأعتقد أنه استطاع أن يوجد معادلة لا نجدها عند كثيرين من أباطرة الشعر العربي، وهي القدرة على التحرك بحرية كبيرة وسط أماكن ضيقة لا تسمح له بالتحرك أكثر، لكن مع ذلك سجل تلك البصمة التي أدت إلى وصوله لشرائح كبيرة، وغنى أجمل قصائد الحب والوطن ولطالما كانت هذه الأشعار علامة مضيئة في الثقافة السورية الأصيلة التي نصبو إليها.

ظاهرة لن تتكرر

بدوره ركز الباحث والأديب شمس الدين العجلاني على المنسيات في حياة نزار قباني فهو الرجل الذي أرخ لدمشق، وهو الولد المشاغب الذي لعب بالنار ونكش عش الدبابير، وهو الطفل المشاكس الذي أشعل الحرائق ولم تنطفئ حتى الآن، وهو الذي أعلن العصيان على كل التقاليد والأعراف، والشاعر الذي جعل من الشعر خبز الناس اليومي، منوهاً إلى علاقة نزار قباني مع شيوخ النفط الذين ألصقوا به تهما كاذبة، وتابع الأديب العجلاني:

استطاع نزار قباني نقل دمشق بمآذنها وحاراتها وزواريبها وياسمينها إلى كل أنحاء العالم وصدّر اسمها في سجلات التاريخ، والآن أحاول التحدث عن المنسيات في سيرة هذا الشاعر، فقد غيّر العربان والغربان الكثير في  حياة نزار قباني وألصقوا به تهماً كثيرة وحاولوا الإساءة له قبل وبعد وفاته والتأكيد على وجود مشاكل بينه وبين بلده سورية، علماً أنه لم ينف من البلد كما يدّعي الآخرون، فقد كان على علاقة دائمة بالبلد وقيادته.

الأم والمرأة

من جانبه يرى د. وائل بركات أن لا أحد حمل هموم المرأة وهواجسها وقضاياها مثلما فعل نزار، فإذا كانت بالنسبة إليه الجمال ورمزه، الكونَ وأسرارَه، فإنها بالمقابل صورة للظلم التاريخي وجوهرٌ له، إنها تشكيلٌ لحالة القهر والرضوخ التي تعانيها -ولاتزال- المرأة العربية خصوصاً، والإنسان العربي عموماً منذ القديم إلى الآن، فرسم في قصائده بحروف من ألم الموت، وبألوان من جراح النفس وضع المرأة العربية في مجتمعها وفي علاقتها بالرجل المسيطر المستبد بوصفه ذاتاً قامعة ومقموعة بآن معاً.

ويتابع د. بركات لاشك أن نزاراً أزاح عن المرأة حجبات ظلت قابعة تحتها قروناً من الزمن، وأطلقها في شعره، وأفسح لها مساحة من الحرية لاعهد للشعر العربي بها سابقاً، وجعل من إنصافها -وإن لم تُنصَف إلا قليلاً- معركتَه الجوهرية وقضيتَه الدائمة. وللمرأة في شعره وجهان: الأول كيان يتصل بطفولة الشاعر في علاقته مع أمه -التي تنتشر في أرجاء قصائده بصورة مباشرة أو ضمنية-، وهي عشقه الدائم وعليها يقيس بقية النساء، والثاني قضية، يسخِّر شعره لشرح مشكلاتها وتسليط الضوء على صور الظلم والاضطهاد الواقعة عليها، والمطالبة بتحريرها من سجنها التاريخي إنها المرأة-الأنثى.

كما تحدث أيضاً د. بركات عن رسم صورة المرأة قائلاً: كان جميلاً أن نحتفي بنزار في عيد المرأة وعيد الأم، ولكن هذا الشهر أيضاً يصادف عيد ميلاده وذكرى وفاته والندوة في المنتصف، المرأة في شعر نزار قباني تنقسم إلى رمزين الأول الأم التي يحن دائماً ويعود نزار إليها باستمرار لتكون الحضن والمأوى والحنين، والرمز الآخر هو جهد نزار في تحرير المرأة من القمقم الذي تعيش فيه، وقد دافع عنها وحاول تخليصها من النموذج الشهرزادي والسيطرة الشهريارية.

شاعر القضية

بدوره ذكر د. إسماعيل مروة بعض الحوادث عن نزار قباني، ومنها حكاية هدباء ابنته التي اصطحبت صديقتها من بريطانيا، وما بين خروجهما والتجول في البلدان الأخرى كانت مدة الفيزا قد انتهت، ولم تدخل صديقتها  إلى سورية -أغلب الظن- فتدخلت السفارة لكن محاولاتها باءت بالفشل، ثم  اقتربت هدباء من الضابط وهمست في أذنه، بعدها ختم لها جواز السفر  ودخلتا، وعندما خرجتا من المطار سألتها صديقتها البريطانية ماذا قلت له وهو لم يقبل وساطة السفير. أجابتها: قلت له: “هذه ضيفة نزار قباني وأنا ابنته” وقد كتبت الصديقة عشرات المقالات تمجد فيها الأمة التي تحترم شعراءها.

واستشهد د. مروة بكلام للأديب عبد الرحمن منيف إذ قال: عندما كنت في فلسطين كنت أكره هذا الشاعر الذي اسمه نزار قباني، فنحن منكوبون وهو يصدر الدواوين بالورق الملون، وبعد القراءة تبين مايرمي إليه في شعره فقال: لو أنصفنا وتحققنا ما قاله نزار لما حصلت النكبة” وأصبح صديقاً. يتابع د. مروة: من يقرأ نزار قباني سيجد أنه شاعر القضايا فهو يعلّم المرأة كيف تتجمل لذاتها ولمن تحب، وفي كل شعره يؤكد أن تكون المرأة شريكة الرجل، وأراد لها أن تحب بقرارها لأن الحب مقدس، وهو من أحب الشام وحددها كنقطة الكون الوحيدة.

وحول اختيار الموضوعات التي تعتمد للمناقشة في ندوة الأربعاء الثقافية قال د.مروة:

في ندوتنا الثقافية، وعبر أمسياتها الثلاث اخترنا أسماء ركزت على حب الوطن بغض النظر عن أي انتماء، وهؤلاء الناس كانوا متنوعي المشارب ومتنوري الأماكن الجغرافية في سورية، وأكدوا على انتمائهم للبلد. لم يُقرأ نزار قباني كما يجب، أغلب أحكامه كانت تأتي لمن يقال عنه ولما يُغنى له دون قراءة جوهره، واليوم هو من الشعراء القلة الذي نجد الجديد عنده كل يوم.

جمان بركات