لؤي عبد الإله في”لعبة الأقنعة” كســـر مفهــــوم التعليــــب الرقمـــــي
يعيد القاص العراقي لؤي عبد الله، تأكيده على هويته الثقافية والفكرية، هوية المكان وثقافته في وجدانه، هذه الثقافة المشتملة على الحسي العاطفي والمادي الملموس، دخلت عليها ثقافات أخرى بعد أن تشربها بدراية في ديار الغربة، بحيث يكون أسمى ما في هذه الثقافات موظفا لصالح ثقافته الانتمائية إلى المكان الذي يخصه ويحيا فيه بوعيه لا في حضوره المادي إذا صح التوصيف، حيث سيحرص “لؤي” على العودة إلى تفاصيله ومطارح استلهامه شرارة إبداعه في نصوصه القصصية، التي يتعامل معها الرجل، وكأنه يسعى إلى إحياء ثقافتها الأصيلة القائمة على الدهشة والمتعة وجدة الطرح وديناميكية الأسلوب وطبيعة اللغة المنتقاة، أما الأهم بين هذه العناصر فهي “الشخصية” التي تظهرها الأعمال القصصية ل “لؤي” كما لو أنها ثلاثية الأبعاد، حتى في جوانياتها التي تحضر أحيانا بكلمة أو لقطة، وبكثافة تعتمد البساطة في التعبير والعمق في الطرح، حيث تلعب الشخصيات دوراً بارزاً في نصوص صاحب “العبور إلى الضفة الأخرى”،في تقديم فكرة مغايرة، رؤية مختلفة، وجهة نظر، أخلاقيات ومبادئ مختلفة، وتجارب حياتية مختلفة أيضاً،مميزة نتاجه الأدبي القصصي، بعدة خصائص مهمة في هذا الفن، كقلة الكم ووحدة الانطباع، والقبص على الشعاع الخاطف واللحظة العابرة،وذلك ما يبدو جليا في مجموعته القصصية “لعبة الأقنعة” الصادرة مؤخرا عن دار “دلمون” الدار التي يحسب لها جرأتها ومغامرتها النبيلة في إصدار أدب القصة القصيرة بفنه الحقيقي، بعد أن كاد يختفي تحت ضغط أجناس مشوهة من القصة القصيرة، التي جاءت مع العالم الافتراضي وبقيت تدور في فلكه بأسماء وصفات غريبة وعجيبة، سيكون لنا وقفة معها، وهي في معظمها من نتاج زمن الحرب!.
“لعبة الأقنعة” هي من المجموعات القصصية الباعثة على الدهشة إن كان على مستوى الفكرة أو الشخصيات أو الأحداث وحتى الحبكات التي يتعامل معها “عبد الإله” بحساسية خاصة، بعد أن يحيكها بمزيج بارع بين السرد الفلسفي العميق والبساطة والرشاقة التي يحضر فيها هذا السرد على لسان الشخصية كما في المثال التالي من القصة التي تحمل اسم “المخادع” حيث تتساءل الشخصية السؤال التالي وهي في ذروة كشفها لمنطق الحدث: “هل يمنع الموت حقا من نحبهم من التقدم في السن مثلنا لكن على الضفة الأخرى”، السؤال هنا يبدو للوهلة الأولى طفوليا، وهو ما تقصد الكاتب أن يطرحه من وجهة نظر طفل، لكنه حقيقة يحمل مضامين فلسفية يحضر فيها الحس “الميثيولوجي” العميق الأثر والتجربة في ثقافة بلاد الرافدين بشكل خاص، مع امتلاكه ككاتب مهارة التقنية القصصية المتعددة الوظائف، والتي تظهر هذا الجانب على أكمل وجه، ومنها تقنية الكتابة شبه الرمزية بلغة شبه رياضية، فكثافة الرمز في “الميثيلوجي” عادة لا تحتمل أن يشاركها الأسلوب الرمزي بالسرد، وإلا لضاعت المقولة واختفت القصة ذاتها بين المواربة والتخفي.
أيضا سيكون للغة التي يكتب بها “عبد الإله” حضورها الخاص وسمتها المميزة والخاصة بأسلوبه في استخدامه لها ككاتب، فاللغة التي أنجز بها صاحب”المثقف وصرع الأحلام” نصوصه القصصية، سواء في لعبة الأقنعة أو غيرها من منتجاته الأدبية ومن نفس الجنس، جاءت بعيدة عن الزخرفة والتكلف اللفظي الذي يهيم به كتّاب هذا الفن، وإن كان بنسب متفاوتة، مؤثراً التعبير عن الفكرة التي يريد طرحها بلغة أدبية رشيقة نوعاً ما، تتخفف من الانفعال والمبالغة لصالح الشخصية التي يحرص “لؤي”على تقديمها كما هي، فأبطاله ليسوا مفكرين، أو فلاسفة، أو حتى من الذين تضعهم الظروف في مواجهة الأقدار، فيتعملقون إزاءها، إنهم ببساطة شخصيات من الحياة، من الواقع، من العالم الذي نراه ويرانا، ننخرط فيه وينخرط فينا، وهذا الخيار جعل الكاتب لا يسعى خلف الشخصية النموذج، بقدر ما سعى للشخصية المعاكسة، الشخصية المهزومة، والراضية بهزيمتها، دون مكابرة على الألم، ودون العمل للحد من تدفقه في أوردتها، وغالبا ما تدور شخصيات صاحب “كوميديا الحب الإلهي” في دوامة من الاضطرابات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي تؤجج أوراها الغربة التي تحياها هذه الشخصيات، إن كان على المستوى النفسي أو على المستوى “الزمكاني”.
مجموعة “لعبة الأقنعة” القصصية والتي تحمل العنوان ذاته الذي تحمله واحدة من قصص المجموعة، الأشد تعبيرا عن أسلوبية القاص ومنطقه في التعامل برمزية سلسلة ومتقدمة نحو خطابها الرمزي ببساطة كما أسلفت، تطرح مجموعة من الأسئلة الكبيرة بمفردات يومية واقعية حقيقية، كالموت والعاطفة والخيال والوحدة والفصام والواقع، الحب، الكره، الخيانة، الكذب، الفرح، الحنين، الضياع، الألق،كما أنها تعج بالقضايا الذهنية العويصة، والإشكاليات الإنسانية الميتافيزيقية ذات الطرح الأنطولوجي والمعرفي والقيمي، وهي بهذا المعنى تذهب نحو أن تكون ذاكرة الكاتب المنفعلة عن علاقات حقيقية قامت أواصرها بين رؤيته وتوجهه للعالم، وبين النتائج التي جاءت في بعض الأحيان وكأنها تعانده، ما جعله يذهب نحو انتقاء “ثيمة” قصصه من تلك المنطقة التي تتوسط الخيال والواقع، فلا هي مرتبكة في بحثها عن ماهيتها الأدبية، ولا هي مرتبكة أيضا في التعبير والإفصاح عن الأفكار والخواطر التي تتوارد بغزارة عند “عبد الإله” قبل أن ينتقي وفق حدسه الأدبي الذي ربته الأعمال الأدبية العربية والغربية- منها أعمال ديستويفسكي على وجه التحديد – اللقطة الأكثر ترفا في المعنى والأكثر تقشفا أيضا في المبالغة والخطابة والتفاصح الذي يعاند مفهوم القصة القصيرة، وهو أي “التفاصح” أحد أمراضها المزمنة، خصوصا بعد تراجع هذا الفن أما فنون أخرى حملت لواء العصر كالرواية والسينما، المنفعلان بدورهما عن القصة القصيرة.
“لعبة الأقنعة” وما تحمله من مضامين فلسفية وفكرية ومتعوية أيضا، تؤكد على صوابية الخيار الذي انتقاه الأديب العراقي “لؤي عبد الإله” في توجهه نحو القصة القصيرة، حيث برع في جعلها مشاهد مصورة بالكلام على الورق، محافظا على المعادلة الكلاسيكية الأصيلة لفعل القراءة “الكتاب والقارئ” الذي يصر عليها الكاتب في إصدارته المنتظمة لنتاجه الأدبي على هيئة كتب كلاسيكية، منكرا بذلك مفهوم التعليب الرقمي الغالب في لغة اليوم، ومدربا الخيال على أن يقبل أيضا أنه في عالم ليس أقل قسوة، لكنه أيضا ليس أقل قيمة وفنا.
تمّام علي بركات