ثقافة

الذائقة الشعرية بين شعبوية الشعر الكلاسيكي ونخبوية الشعر الحديث

اختصر أبو تمام، حجر بن أوس الطائي أزمة الذائقة الأدبية التي ما زالت كائنة إلى اليوم بجوابه المعروف على السؤال الذي نسب إلى أكثر من شخص، أشهرهم الفيلسوف أبو يوسف يعقوب الكندي، ذلك السؤال كان تعليقاً على قصيدة مدح بها أبو تمام الخليفة المتوكل وهو: لم لا تقول ما يفهم..؟ أما جواب أبي تمام فقد كان: ولم لا تفهم ما أقول..؟
كان هذا الجواب تأسيساً لفهم، وتذوق جديدين وإن كان كذلك فهذا يعني أنه يقع على عاتق الإبداع الأدبي والفني الارتقاء بالذائقة الأدبية والفنية، إن علاقة الكتابة إبداعاً ونقداً بمسألة التلقي علاقة جدلية تعددت فيها الآراء والنظريات.
لكن المؤكد أن مسألة التذوق الأدبي في الغالب تبدو مفارقة لنظريات وتيارات النقد الأدبي، فهذه النظريات تبدو منحرفة عنها وكأنها لا تعنيها، وهذه النقطة بالذات تطرح سؤالاً بمنتهى الأهمية حول من الأسبق تغيرات الذائقة التي تحكمها ظروف  معطيات اجتماعية واقتصادية، ثقافية وسياسية  أم الكتابة..؟
على مدى عقود عديدة بدءاً من منتصف القرن العشرين إلى الآن امتدت تجربة الحداثة الشعرية العربية بصيرورتها المعروفة من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر.
هذه التجربة لم تحقق الكثير على صعيد التلقي، فهي و إن اختلفت عن بداياتها الأولى من حيث التذوق و القبول إلا أنها ما زالت أسيرة فئة معينة و هي الفئة المثقفة، ليس كلها بالتأكيد، المهتمين فقط..
القصائد التي شكلت إرهاصات الحداثة لاقت قبولاً جيداً لدى المتلقين إن كانوا نقاداً أو قراءً مهتمين، يختلف الأمر بالنسبة للنقاد عنه عند المتلقين الذين كان وراء قبولهم هذه التجارب الجديدة التي قامت على قصيدة التفعيلة واتسمت بغنائية وموسيقى لم تخرجها بشكل كامل من إطار الشعر الكلاسيكي، لكنها لم تكن بنفس درجة قبول القصيدة الكلاسيكية، لم يبق هذا القبول على درجته في قصيدة النثر وتلك النصوص خارج التصنيف التي توصف بالشعرية استناداً على اللغة فقط.
كذلك لعب موضوع القصيدة الحديثة دوراً مهماً في قبول هذه القصيدة حيث تناولت هذه القصائد مواضيع لم تكن مألوفة في الشعر، كالاغتراب والقلق الوجودي،  وانكمشت تلك المواضيع التي كانت توصف بأغراض الشعر كالمديح والرثاء  والاحتفاء بالطبيعة.
لم تحقق قصيدة الحداثة إلى الآن ما حققته القصيدة الكلاسيكية من قبول وانتشار عند الفئات المختلفة اجتماعياً وثقافياً، حيث نجد من يحفظ أبياتاً من الشعر من سوية ثقافية وتعليمية منخفضة وعالية وما بينهما ويستشهد بها، فالكثير ممن لم يتجاوزوا تعليمياً المرحلة الابتدائية يعرفون المتنبي وأبا فراس و بدوي الجبل و أحمد شوقي.. وغيرهم  بينما بقي الشعر الحديث قصراً على نخبة من المثقفين المهتمين..
قد يكون مرد الأمر إلى أن المناهج الدراسية قامت في أغلبها فيما يخص الشعر على الشعر الكلاسيكي، إلا بعض شذرات الشعر الحديث التي أدرجت في مناهج الدراسة بشكل خجول خاصة في الفترة الأخيرة، وأمر آخر بمنتهى الأهمية هو تلك الذاكرة الجمعية الجمالية التي تختزن مفاهيم  ومعايير للتذوق الشعري الجمالي كرستها تجربة متجذرة ومتوارثة بعمق زمني كبير لم تستطع تجربة الحداثة أن تأخذ مكاناً مهماً فيها إلى الآن، هذه المفاهيم التي تقوم على الوزن والقافية والموسيقى التي يتصف بها الشعر الكلاسيكي، حيث نجد إلى الآن أن التذوق في جله يقوم على السجع على الأقل.
هذا الأمر لا ينسحب على الشعر الحديث بكليته، فهناك تجارب شعرية حققت انتشاراً كبيراً عند أوساط مختلفة كشعر محمود درويش وأمل دنقل، ربما لأن تجربتهما تتصف بالغنائية التي  تجعلها أقرب للفهم و للحفظ  و لأن مواضيعها لامست معاناة  واهتمام الفئات كافة.
لم تساهم منابر النشر في تحويل الذائقة الشعرية باتجاه الشعر الحديث إلا بنسبة ضئيلة حتى مشاعية النشر التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي وصفحات النت لم تنجح في توسيع دائرة التلقي لهذا الشعر رغم ذلك النزوع القوي لدى عدد كبير من الشعراء افتراضاً ليقدموا تجاربهم الشعرية على هذه الصفحات,  ورغم الكم الكبير من المنشورات التي ادعت الشعر أو أتت شعراً، علماً أن هذا الكم لم يفرز كيفاً،  كذلك لم تلعب المراكز ولا الملتقيات الثقافية دوراً ايجابيا في هذا الأمر حيث بقي تذوق الشعر الحديث في إطار دائرة من المهتمين ولم يحقق حالة عامة من الانتشار.
هناك من أعاد هذا الأمر إلى الغموض في الشعر الحديث ولكن هذا الغموض انقشع في القصيدة النثرية وهو أساسا لم يكن سمة عامة له، واختلفت درجته بين تجربة وأخرى.
والآن بعد عقود من بدايات الحداثة وبعد تأصيل الكثير من التجارب الحداثوية والبناء عليها وبعد حشد الكثير من المصطلحات التي وصلت إلينا فائتة بائتة من مصطلح ما بعد الحداثة إلى مصطلح الحساسية الجديدة واستيراد ماركات شعرية أجنبية كالهايكو مثلاً.. ما زلنا نجد رجلاً  شبه أمي قادراً على الاستشهاد بعشرة أبيات من الشعر الكلاسيكي على الأقل وذكر عشرة أخرى في الغزل وغيره، ومن الصعب أن نجد من هو قادر على قراءة قصيدة حديثة وتذوقها جمالياً إلا في فئة المهتمين فقط.
مفيد عيسى أحمد