ثقافة

“حيفا ليست قرطبة”.. كي تبقي البوصلة في الاتجاه الصحيح

بالطبع حيفا ليست قرطبة، قرطبة المدينة الأندلسية التي عمرها العرب ونالت شهرتها عبر شهرتهم حين عمروها وأدخلوها عالم المدنية والحضارة، ليخرجوا منها بين ليلة وضحاها إذ مالت بهم الأيام ليطردوا منها حاملين قهرهم إلى بلاد أخرى.

وحيفا لن تكون قرطبة ولن تتحول إلى ذكرى وهو إيمان ويقين ليس في وجدان قسيس فحسب، بل هو ما يجب أن يكون اليقين والإيمان في كل وجدان “أقله أهل البلاد وأصحاب القضية”.

تشخيص وعلاج

حيفا ليست قرطبة رواية شوقي قسيس الذي يستبق في مقدمتها الأفكار التي قد تراودك حول طبيعتها فينبهك أنها “تمثل أول مغامرة له في الكتابة: “إنها كتابة بلغة أمي، وفي موضوع لا يتعلق باختصاصي المهني”.

ما بين يديك ليس حكاية أو رواية بمعناها الكلاسيكي، وهو ليس مذكرات أو يوميات أو سيرة ذاتية متكاملة. وهو أيضا ليس بحثا سياسياً؛ أو دراسة اجتماعية بحسب الدلالة العلمية للكلمتين، قد يكون فيه شيءٌ من كل ما ذكر، أو قد ينطوي علي ما في الأنواع الكتابية جميعا بوصفه تسجيلا لهذا الكتاب الذي بين يديك يمثل أول مغامرة لي في الكتابة “لنكتشف أنها كل ماذكر، على أن تكون الرسالة والصرخة كي لا يؤول مصير حيفا مسقط رأسه إلى ما ذهبت إليه قرطبة، والأمر ينساق على كل حبة تراب سلبت واغتصبت،  فتجاوزت عودته بالقارئ إلى الماضي رغبته بتسجيل حدث معين وتوثيق حالة ما مرت به خلال سني حياته، فيأخذ دور الطبيب الذي يشخص المرض، يضع إصبعه على الجرح ويدلّك إلى العلاج، يرصد ما أصاب حياة الناس فيها من تشوهات بعين ثاقبة ومحبة ويشير إلى ما أصاب القيم والعادات الجميلة من تبدلات ومخاطر ليس بقصد التشهير، بل كي لا تذهب المدينة إلى النسيان.

أنا لا أعارض، بل أؤيد، تعريب مفردات أجنبية حتى وإن كانت عبرية. ولكن المشكلة تكمن في أمرين:

الأول هو أنهم يستعملون مفردات عبرية لها بديل في لغتنا، وكانت حتى زمن غير بعيد منتشرة ومتداولة. والأمثلة على ذلك كثيرة:

“روطيط يستعملونها لرنة الهاتف الجوال بدل يرج؛ من يقدر أن يأتي بلفظ أقبح وأقرب من لفظة روطيط فليتفضل!”.

حتى كلمة “مشتل” عبرنوها وأصبحوا يذهبون إلى “المِشْتَلاه” لشراء نبتة أو وردة، “سْخاخاه” بدل عريشة.

إن وجدت كلمة أقبح من “روطيط” فلا بد من أن تكون “سخاخاه”.

أما الأمر الثاني فيتعلق بطبيعة العلاقة بين الهازم والمهزوم.. بين شعب هُدم مجتمعه بالكامل ودُمرت مدنه وقراه، سُلبت أرضه وحضارته، وسلبت حتى ذاكرته، وبين من هزموه وسلبوه. في علاقة كهذه ما يحدث في النهاية هو أن تتنحى كلياً لغة المسلوب وتسود لغة السالب. وهذا أمر خطير للغاية، لأنه إذا حدث ذلك تكون النهاية.

ذهبت قبل سنة تقريباً إلى قرية نحف المجاورة لتقديم واجب العزاء لعائلة نحفاوية. بعدما خرج أحد المعزين من قاعة العزاء، أعلم أحد أبناء الفقيد الحاضرين بأن الضيف المعزي هو الحاج فلان الفلاني من قرية كفر مندة، ثم أضاف موضحاً لا فض فّوه:

ـ تعرفون كفر مندة.. إنها تلك القرية التي بجانب مسجاف.

ـ وأين يقع (مسجافك) هذا؟.

تلعثم ولم يجب، فقلت له وللحاضرين:

ـ مسجاف تقع بجانب كفر مندة، وربما أقاموها على أرض اغتصبوها من أهالي كفر مندة.

في عروة الدهر وسام

كانت الرواية كما أراد لها صاحبها مزيج من الأنواع الأدبية بلغة بليغة وراقية حتى أنه لا يمكن لك أن تجنح بالخيال فتتفكر أن كاتبها متخصص بالعلوم والتكنولوجيا، بل أديب متخصص متبحر في علوم اللغة وآدابها، الرواية التي أتت في 464 صفحة، توقف فيها كاتبها عند العديد من المحطات في حياة الفلسطينيين، وطرح أسئلة جادة وهامة حول مصير الفلسطينيين أو مصائرهم بكل أبعادها، تداخلت حياته الشخصية مع الحياة العامة لأبناء فلسطين، وهي السمة الأساسية لحياته وحياتهم حيث لاحدود فاصلة ما بين الخاص والعام، وما بين الوطني والقومي، وحوارات وأحداث نقلنا معها من بلدة الرامة إلى تل أبيب وصولا إلى الولايات المتحدة مع ابنه المقيم فيها، إلى بئر السبع فبيروت والقاهرة ودمشق:

“ترددنا كثيراً في الذهاب إلى سورية، فكنا نسمع دائماً عن سوء معاملة المسافرين العرب، خاصة الفلسطينيين، في نقاط التفتيش على الحدود بين الدول العربية وفي مطاراتها: إهانات شخصية وفظاظة في المعاملة، رفض السماح للمسافر بالدخول وإرجاعه من حيث أتى. وقد زاد من خوفنا من مغامرة الذهاب إلى سورية أننا من فلسطينيي الداخل ونحمل جوازات سفر من الدولة العبرية، لكننا لم نجد إلا اللطف وحسن المعاملة.

كيف نفسر هذا التناقض؟ لا أدري. كل ما أدريه هو أنني شعرت بفخر واعتزاز لانتمائي إلى وطني الكبير.. إلى بلاد الشام.

لعل أهم من كل ما ذكرت هو أن الإنسان السوري هو عربي سوري فقط لا غير. لا يقلد أحداً، ولا يتمسح بعادات أحد.. لا يحاول أن يظهر أميركياً أو فرنسياً أو أي إنسان آخر. لا لكنات أجنبية مقيتة ومصطنعة، ولا مفردات أجنبية في الكلام. لا انتماء طائفيا أو مذهبيا، بل انتماء إلى المكان والقومية. أصالة عربية شامية “من قاع الدست”.

قضيت أياماً عدة في شوارع الشام وطرقاتها.. أدخل عبر بواباتها.. أتبضع من أسواقها الشعبية: سوق النحاسين، وسوق العطارين، وسوق الحميدية الشهير، وغيرها. تعيش بين أهلها فلا تشعر بالغربة… ترى وجوهاً عرفتها من قبل، وتقابل شخصيات ألفتها منذ سنوات… فهم أنت وهو وهي وهؤلاء. تتذوق فيها أطيب الأطعمة، وتسمع فيها أجمل الأنغام، وتلتقي بأجمل العيون. تجلس في المقاهي وتتبادل الحوار مع من يجلس إلى جانبك… فأنت في الشام لست غريباً عن أهلها، ولا هم غرباء عنك.

غادرنا الشام إلى بيروت، وكان في ودي أن أمضي بقية الأيام في الشام مع أهلها الذين “ذِكرُهم في عُروة الدهر وسام”.

ومن ثم ترجعه الذكريات والزيارات إلى حيفا، ترجعه رائحة زعترها البري والزيتون وتلك التفاصيل الصغيرة التي تروي حكاية جيل فلسطيني هو منه وأجيال قادمة، ومخاوف أن يذكرنا التاريخ” كانت لهم يد في تثبيت عملية السطو المسلح على التراب الفلسطيني”.

رواية تستحق قراءة جدية إذ تفتح الأعين على تفاصيل وتبدلات قد تبدو صغيرة ولكنها تحمل من المخاطر ما يدعو للتفكر وإعادة الحسابات كي تبقى البوصلة في اتجاهها الصحيح.

ولد شوقي قسيس في حيفا /1947، أتم دراساته الجامعية ونال شهادة الدكتوراه في علم الميكروبات، رحل بعدها إلى الولايات المتحدة فعمل أستاذاً جامعياً في علوم الأحياء والطب، لديه أكثر من مئة بحث علمي وسجل باسمه أربع براءات اختراع، بعد تقاعده اختار أن يتجه إلى الكتابة، فكانت “حيفا ليست قرطبة” أولى نتاجاته الأدبية أصدرها في العام 2011، ثم أصدر كتاباً حول الشعر العربي؛ وكتاب “اللغة العربية أن تعرفها لا أن تعرف عنها” ولديه الكثير من النشاطات الثقافية، التي تدور في غالبيتها حول القضية الفلسطينية ودعمها، توفي في 27/1/ 2017.

بشرى الحكيم