ثقافة

“رحيل باتجاه العودة ..ذاكرة الشتات والداخل الفلسطيني”.. توثيق المكان

أن تكتب كاتبة سورية عن فلسطين بهذه الحميمية هو دليل على أن القضية الفلسطينية جزء من الروح، وأن تجري لقاء مع أدباء كبار واستقطاب جراحهم هذا يعني أن هناك جهداً كبيراً مبذولاً لا يمكن إنكاره. وإصرارها وإيمانها بعملها جعل من باكورة أعمال عبير القتال “رحيل باتجاه العودة ذاكرة الشتات والداخل الفلسطيني” جزءاً من روحها وحياتها، فهي التي كانت قريبة من فلسطين في صغرها وكان والدها يعشمها دائماً بالبرتقال الفلسطيني، وقد كان هذا الكتاب مؤخراً مثار نقاش في ندوة نقدية أقامها المركز الثقافي العربي في المزة، وقد تناوب على النقاش وتقديم الرؤى في الكتاب عدد من الكتاب والنقاد نستعرضها تباعاً في هذا المقال.

عطر أخاذ
نجحت الكاتبة عبير قتال من خلال كتابها “رحيل باتجاه العودة ذاكرة الشتات والداخل الفلسطيني” في نقل الواقع إلى مدونة صادرة عن مؤسسة ثقافية قيادية ورائدة، واستطاعت بدراستها هذه نقل الأديب رياض طبرة إلى عطر الأمكنة وصورها وكيفية تشكلها، وعاد بالذاكرة ليجد أن ذلك العطر الأخاذ قد ينعش ويبكي، فيقول طبرة عن الكتاب: لقد أفلحت قتال في حزمة من الترتيبات أولها الشكل حيث استعانت باللقاء المباشر واستنطاق الكاتب وليس كتبه، وتركته كأي شخصية روائية أن يقدم نفسه بنفسه. ثانياً القامات التي تحدثت عن تجاربها في تحديد المراد من الذاكرة الفلسطينية باتوا هم الذاكرة، وجميعهم يستحقون أن يكونوا أبطالاً في الرواية والكاتبة لمست هذا الشيء. وثالثاً: من حيث المضمون ظلت وفية لعنوان دراستها أو روايتها مسلطة الضوء على القضية الأساسية ألا وهي اغتصاب فلسطين وتوزع الشعب بين لاجئين في وطنهم، ولاجئين على حدوده أو في الشتات، طارحة سؤالاً هل صحيح أن من يعيش في وطنه فلسطين لا يراها كما يراها حسن حميد ويعمل على ترسيخها في ذهن الناس جميعاً؟ أو كما يتطلع خالد أبو خالد بالتوازن بين الوطن والكرامة.

حرب ذاكرة
بدأت عبير قتال مقدمة كتابها بأغنية لفيروز للشاعر هارون هاشم رشيد “سنرجع يوماً” ثم مقدمة تقول فيها “أدهشني الوعي المبكر بالذاكرة، والحضور القوي للكاتب الفلسطيني حيث كانت الجغرافيا والمكان معادلاً للذاكرة أي معادلة الحياة” وتقول أيضاً: “الذاكرة فسيفساء الإبداع الفلسطيني”. جاء كتاب “رحيل باتجاه العودة شتات الذاكرة والداخل الفلسطيني” دفاعاً عن الذاكرة واحتفاءً بها، هذه الذاكرة الواعية لأدق التفاصيل، فقد قبضت منذ اللحظة الأولى على أهم أطروحات ومفاصل النضال الفلسطيني. يقول عماد فياض عن الكتاب:
حربنا حرب ذاكرة وهي أول شيء سعى إليه العدو الصهيوني ومازالت محاولته مستمرة في طمس الذاكرة وتغيير معالم الجغرافيا حتى المقابر لم تسلم منهم. تقدم عبير من خلال كتابها عدداً من الكتّاب الفلسطينيين للحديث عن تجربتهم الإبداعية، من الداخل الفلسطيني يقول الروائي أحمد رفيق عوض: أن ما يكتبه يختلف عن ما يكتبه غيره، هو في الضفة حيث أوسلو غير ما يكتبه حسن حميد الذي كما يقول يخلق نصاً مقدماً كما في “جسر بنات يعقوب” لأنها فلسطين وصارت رمزاً أقوى من الواقع. يريد عوض القول ما يصر عليه دائماً “ذاكرة اليهود ذاكرة مهاجرين”. ويقول رشاد أبو شاور بخصوص الذاكرة موجهاً الحديث إلى عبير: “انظري إلى الخارطة، احذفي فلسطين منها ينحذف الجسر الذي يصل مشرق الوطن بمغربه هذا هو المكان الفلسطيني. ويقول خالد أبو خالد: “الذاكرة ليست ذاكرة فريدة وإنما جماعية لا تغنى حتى القطيعة مع التاريخ والجغرافيا والمكان والأحداث والأشخاص، الذاكرة هي أهم الأسلحة في المعارك ووقود حقيقي لشد المعنويات ويتابع أبو خالد”الاحتفاظ بمفتاح البيت ذاكرة”. واللافت في كتاب عبير القتال هو الحوار مع عدة أجيال من المبدعين الفلسطينيين، وهذا الولع بملاحقة الذاكرة واستقصاء زواياها ودروبها البعيدة التي من خلالها عرفنا تفاصيل خاصة وحميمية لأدبائنا الكتّاب.

خدعة ولكن..
وسلّم د.حسن حميد نفسه لأسئلة عبير الذكية التي خصّت بها ما كتبه ونشره، وعن المكان الفلسطيني بعدما انقسم وتشظى إلى ضفتين، وعن الأدب الفلسطيني واتجاهاته وغاياته وخطوطه، وقد تحدث عن الكتاب وصاحبته:
أكاد اعرف هذا الكتاب المعنون: “رحيل باتجاه العودة ذاكرة الشتات والداخل الفلسطيني” كما أعرف خطوط يدي، التهم أوراقه ببصري، وأحاطت مشاعري به، عرفت هذا الكتاب بصورة اجتماعه الأولى على شكل فصول بعضها يقطر بعضها الآخر وهي تتحدث عن المكان الفلسطيني والذاكرة والعادات والتقاليد والأحلام وقصص العشق. في البداية تحدثنا سوية عن العشق الفلسطيني الذي تشيل به مدونات الأدب والفنون الفلسطينية، وعرفت أموراً كثيرة –تخص الكاتبة- لعل من أبداها حال السحر التي تعيشها وهي تتحدث عن فلسطين، والحلم التي تطير بها وعبرها إلى كل الكلام والغناء وكانت عبير أكثر من حالة صدق وحب. عندما بدأت مشروع دراستها لم تكن الخاتمة واضحة في ذهني، فهي لم تصارحني بأنها ستكتب كتاباً يجمع أشواقها وحنينها ورؤاها وشغفها بالبلاد الفلسطينية التي أحبتها، ظننتها في البداية مجرد صحفية تريد أجوبة لأسئلتها ولكنها خدعتني ولم تبح بأسرارها ونياتها.
قارئ الكتاب سيجد فيه أطياف الأنوثة العبيرية القتالة تماشي كل صفحة لأنه مكتوب بأنفاس الرواية وعبق الحكاية استلالاً من عالم الأسرار والمخبوءات التي هي بنات الذاكرة، وبذلك فإن الكتاب يعمل على نوع من كتابة اسمها “المقاربة المعرفية” التي تجمع صفتين اثنتين: سيرة الكاتب وسيرة النصوص. عبر فصول الكتاب المديدة تحدثت الكاتبة عن الأدباء الفلسطينيين مثل خالد أبو خالد، رشاد أبو شاور، صالح هواري وغيرهم، فهم من حبّروا مدونة الأدب الفلسطيني وتكاد هذه الأسماء تشكل الشباك التي توقع أولئك الكبار طواعية في غواية الكتابة الأنثوية عن موضوعات باديات الجروح.

ذاكرة
أحياناً يصاب الحنين ببعض البرود، وأحياناً ولكثرة ما هدت قضايا البلدان حيل الناس صاروا يبحثون عن منافي أبعد ولكنها آمنة، وأحياناً كثيرة يخبر أصدقاء فلسطينيون بالصورة الكبيرة الساطعة أنهم في قلب فلسطين أما عبير القتال فهي ابنة هذه الأرض التي قسمها الاحتلال، وكتابها بمثابة زيارة حقيقية لفلسطين ليس بالجسد بل بالعين والقلب  والبصيرة والحلم الذي يزداد عناداً مع الزمن.
الكتاب “رحيل باتجاه العودة ذاكرة الشتات والداخل الفلسطيني” هو عودة باتجاه أنفسنا وشخصياتنا الحقيقية وبلادنا وذاكرتنا الجمعية وهناك طرح عميق لقضايا إنسانية ووطنية، وعن الذاكرة قالت القاصة سوزان الصعبي: دقّ صاحب “تعالي نطير أوراق الخريف” د.حسن حميد أبواب ذاكرتي في المخيم ومقبرة الشهداء التي كان يخرج إليها آلاف الناس لاستقبال الشهيد، عشت طفلة في المخيم أغوص وأضيع بين آلاف الناس الذين يهتفون، طريقة هذا الكلام التفصيلي عن المخيم وبناته المتجهمات صباحاً في طريقهن إلى العمل والأحاديث عن القرى والسهرات خطه صاحب “مدينة الله” ساعياً لحراسة الذاكرة.
وذاكرة أخرى ويقين ثاقب عند الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم يقول: أنه مجرد عودته إلى صفد سيعرف نزلة سوق الحدادين وكيف كان مع أقرانه يتزلج، ومؤلف “مدن تشبهني” قال المقاومة ليست عملاً آنياً قتالياً في ساحة المعركة بقدر ما هو ذلك التصور الواسع والكبير لثقافة ومرجعية تواجه أبناء الشيطان على الأرض. وارتقى صاحب “الموت على صدر البرتقال” بحبه إلى مرتبة الشوق إلى الموت من أجل الحفاظ على قدسية المكان، وعن ذاكرة الأديبة هدى حنا التي خرجت من فلسطين في الثامنة والعشرين من عمرها كتبت “أريد أن أموت في فلسطين” تعبيراً عن رغبتها العميقة في العودة لبلدها.
وكان للحضور عدد من المداخلات حول الكتاب، ثم ختمت الكاتبة عبير القتال الجلسة بحديثها عن رحلتها مع كتابها الأول الذي امتد على مدى سنوات سبع والصعوبات التي واجهتها في إنجازه، ليتجسد في عام 2014 كتاباً يحمل اسمها وعبقها، ونتاج أدباء شكل ذاكرتهم عن فلسطينهم الحلم.
جمان بركات