ثقافة

رفيق موسى.. كلّما سمعَتهُ شياطينُ الشّعرِ تحضرُ.. لترقصَ

الحديث عن “النّاي” ذو شجون، لخصوصيّة هذه الآلة الشّديدة الالتصاق بجوّانيّة الإنسان.إذْ يتعدّى حدود الآلةٍ النفخيّة ذات الثقوب الصّغيرة المدوّرة، التي تعبُّ الريح بنهم من رئة الوجود لتصبّها في رئة الكائن حنيناً وأنيناً واحتراقات فقدٍ كبير. ليغدو حديثاً في المهمّش وهذيان الخاسر لحظة انهزامه القصوى، عن أمومة الطّبيعة التي بتنا نفتقد هسيسها وحنانها مع تغوّلِ ذكورة العصر الحديث المنحدرة إلى مزيدّ من الضّجيج والفتكِ والدّمار، عن الشعر المهموس وقد تبرّأ من منبريّته وصراخه، ليكُتَبَ بالماء على صفحة المرئيّ فإذ هو أشدُّ بهاءً ومحواً. عن الجانب المؤنّث في الذّات البشريّة عموماً، الذي يُعدّ منبع الخلق والفنّ والجمال، عن الاغتراب والتّشيّؤ وتسلّع القيم الإنسانيّة وطغيان ثقافة الاستهلاك. ومع ذلك يبقى الحديثُ منقوصاً إذا لم يقترن باسم الفنّانٍ المبدع الذي أدمن عشقها حدّ التّماهي، لتغدو جزءاً لا يتجزّأ من بلاغة حضوره في هذه الحياة. مع العازف الجميل “رفيق موسى” تكتملُ معادلة الخلق هذه. ولكن الكلمات تَحارُ، من أين ستبدأ؟ أمن إدانته الصّامتة للمؤسّسات المعنيّة بالشّأن الثّقافي والفنّي التي تبدو بحكم المستقيلة من دورها،أم من حزنه الشّفيف لنكران البعض لجهوده الكثيرة التي كرّسها في خدمة هذا الفنّ النّبيل.أم من كلماته الموجعة التي تنثال بعفويّةٍ على لسانه، راسمة إشارة استفهامٍ كبيرة،تعكسها مرآة وجهه المفطور على الدّهشة دوماً. شأنه بذلك شأنِ معشوقته النّديّة  البوح، يتدفّقَ بالنّغم كماءٍ رقراق لدرجة أنك لن تعرف من منهما ينبع من أغوار الآخر ويعزفه. وهنا لا استثني المتلقّي ذاته،الذي لشدّة تماهيه في لعبة الإصغاء، تراه وقد تحوّل إلى أذنٍ شفّافةٍ تتشرّب كلّ أنّة ريحٍ أو آهة اغترابٍ تشهقها ثقوب الناّي الماطرة. فأنت مع الفنّان”رفيق موسى” تستعيد همس روح القصب في يفاعته الأولى، وأوّل مسامرة لعاشقين، سلا كلّ منهما أنامله في كفّ الآخر. عازفٌ مشبع بكبرياء الفنّ، يفيض بالقلق البهيّ، كلّما استذكر رحلة الكشف والمكاشفة بينه وبين معشوقته الأبديّة، حنينهُ غامضٌ لا يروى لاحتضان أنوثتها الفارهة، كمن يحتضن أنثى في عزّ اللوز. فنّانٌ “يشبه نفسه كثيراً، لذلك تراه حزيناً في منتهى الفرح”.
هي ليستْ مادة للكتابة وحسب، بل دفقات عذوبةٍ تاهت كثيراً في فيافي العشق قبل أن تطمئنّ لخصوصيّتها وبصمتها الخاصّة التي سطّرتها في سجلّ الإبداع. في الوقت الذي استوطن فيه التّصحّر كلّ شيء. فلا تجد وأنت الروح العالية الحساسية ملاذاً سوى العزلة والانكفاء. ومن أكثر من الناي ـ جرح الوجود الكبيرـ يجيد صياغة  فنّ البوح  والتّعبير عن ما تكتنزه أعماقنا الشّاهقة؟. يستشهد الفنان “رفيق موسى” بمقبوس للرّوائية الجزائرية “أحلام مستغانمي” يجد فيه خيرَ تعبيرٍ عن عشقه لروح النّاي: /النّاي هي آلة بوح لاتكفّ عن النّواح كطفل تاه عن أمّه (…) صديق لكلّ أهل الفراق لأنه فارق منبته واقتلع من تربته، بعد أن كان يعيش بمحاذاة نهر،عوداً أخضر على قصبة بأوراق خضر. تُرك ليجفّ، فأصبحت سحنته شاحبة وانتهت به خشباً جامداً بثقوب ليعبر منها الهواء، وإذ به يتفوّق على عازفه أنيناً/. عام / 1993 ابتدأ بتصنيع ناياته، وحين نقول تصنيعها لانقصد المبدأ التّجاري ، بل عمليّة الخلق والإبداع  التي لا تأتي إلّا بعد طول أناةٍ ودُربة. حيث تنمو تجربة الكائن في الظلّ مقتاتة بنسغ الضوء قبل الإزهار والانتاش. البذور الأولى التي التقطها الطائرُ في طفولته قبل بزوغِ الأجنحة كانت من حضوره برفقة والده الأعراس وجلسات المسامرة التي كان يتخلّلها عزف على “الشّبابة” ثمّ تتلمذ بعدئذٍ على يد الأستاذ “غياث محمود” الذي علّمه قراءة النّوتة الموسيقية وفكفكة مغاليقها.أمّا رحلته إلى حلب فكانت المحطة الفارقة الأكثر امتلاءً، التي رسمت مسار حياته، حين تعرّف بالأستاذ “رشيد الصوفي” المغنّي وعازف العود المهمّ الذي تعلّم منه الأبعاد الحقيقية للمقام الشرقي “تركي، إيراني، عراقي، مصري” لتبدأ رحلته الفنية، عازفاً مع الكبار / طوني حنا، سعدون الجابر، فلّة الجزائريّة،/ ومع فنّانين آخرين معروفين مثل “علي حليحل، صبحي توفيق، رويدة عطيّة، حسام مدنيّة ،سامر أحمد  الخ …” كما شارك في برنامج “نجوم المستقبل” في لبنان. ومن ضمن إبداعاته المهمّة، إضافة أربعة ثقوب جديدة لـ “النّاي”  والتي حصل من خلالها على براءة اختراع سجلت بوزارة الثقافة ومكتب حماية الملكية الفكرية.عمل في فرقة الإذاعة والتلفزيون من عام 2001م وحتى 2006م وفرقة “الخماسي” بقيادة الفنّان هادي بقدونس التي توزّعتْ نشاطاتها على محافظات ومراكز القطر الثقافية. وفي عام  2002 انطلقَ إلى تركيا ليتعلّم العزف والاحتراف على آلة “الكلارينيت” ذات المنبت التركي. في عام2012 فتح محلاً لتصنيع “الأعواد والناي والكولة ”  في اللاذقية. ظلّ عضواً متمرّناً في نقابة الفنانين من تاريخ 2000وحتى 2005. ليصبحَ بعدها عضوا أصيلاً.  وفي عام 2005 التقى الباحث الموسيقي  “علي الحفني” الذي دعاه إلى مهرجان القاهرة ونصح البعض بالتّتلمذ على يديه مدلياً بشهادته بأنّه لم يتعرف بحياته على عازف أمهر منه في العزف على “الناي”. وإلى جانب آلته الأثيرة  هذه ، يعزف على “الكولا، الدودك، الكلارينيت، العود” وحاليّاً يعمل مدرّساً لآلتي “الناي والكلارينيت” في معهد “العجّان” في اللاذقية. كما خاض تجربة العزف المنفرد على مدرج الباسل في جامعة تشرين ويطمح لتكرارها على مسارح كثيرة.
ويفتخر الفنّان “رفيق موسى” بتفوّق  طالبته في المعهد على المستوى الريادي “زينب يوسف” وحصولها على المرتبة الأولى. ولعلّ أصدقَ خاتمة قد تفيه شيئاً من حقّه هي شهادة الشاعر الجميل “مازن الخطيب”: / رفيق موسى، المبدع، عندما تسمعه تشعر بقيمة الناي، بقيمة الفنان الذي يعيش حالة عشق مجنونة مع نايه. فنّان يستحقّ أن يشار إليه مثل الكبار، وكلما سمعتهُ شياطينُ الشعرِ تحضرُ لترقصَ/.
أوس أحمد أسعد