ثقافة

رياض الصالح الحسين.. الشعر في مواجهة الموت

قيل الكثير في شعره، وقد اختزل في حياته المأساة كما فعلت معه الحياة، ومن يقرأ شعره اليوم سيردد: ما أشبه يومنا بالأمس، وقد استشرف حجم ما حل بنا.. بهذه الكلمات بدأ الإعلامي جمال الجيش ندوة الملتقى الشعري التي أدارها مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة، وقد خُصِّصَت للحديث عن الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، وبيّن الجيش أن الحسين من معلمي فن الحياة والمنتصرين على المرض وجور الطبيعة وقسوة الحياة من خلال الشعر والحب، ونوّه إلى أن ندوات الملتقى -ومنها هذه الندوة- ليست عبثية بل جادة، ليقول القائمون عليها إننا قادرون على الوفاء مهما عمل منجل الموت في أرواحنا.

المعاناة الحقيقية
شارك في الندوة الشاعران جمال المصري وصقر عليشي ود.عاطف البطرس ود.نذير جعفر أحد أصدقاء الشاعر والذي تحدث عن شخصية الحسين المؤثرة والفاعلة والذي ما زال يعيش بيننا من خلال دواوينه التي تركها، وأشار إلى أن الحسين واحد من الشعراء الذين يشبهون النيازك بحياته القصيرة (ثمانية وعشرون عاماً) والتي إن كانت غير طويلة إلا أن تجربته فيها كانت عميقة على مستوى النتاج الذي تركه في الشعر والقصة والزوايا.
ومن خلال معرفته به توقف جعفر عند عدة محطات من حياة الحسين، أولها محطة الطفولة واليفاعة، وأشار إلى أنه من قرية مارع التابعة لمحافظة حلب والتي تركها متنقلاً بين محافظات دمشق وحلب ودرعا لطبيعة عمل أبيه، ليستقر به المقام في دمشق التي درس في مدارسها وفيها أصيب بقصور كلويّ، وفيما بعد بفقدان السمع، فعكف مبكراً على قراءة الكتب، حيث بدأ يثقف نفسه بنفسه، ليعود ثانية إلى حلب، وفيها التقى جعفر به حين كان يعمل الحسين في مؤسسة الأمالي الجامعية، وأشار إلى أن الحسين في هذه الفترة كان يكتب شعر التفعيلة متأثراً بشعرائها، وقد بدأ يحسم خياره تجاه قصيدة النثر فبدأ يقرأ رامبو والشعر المترجَم، فكان نافذة الحسين على الشعر العالمي، موضحاً أن قراءات الحسين لم تتوقف عند الشعر العربي والعالمي فقد تأثر بموجة الترجمات واستطاع بسرعة تحقيق حضور مميز في ذلك الوقت الذي كان يموج بكل الحركات الأدبية، وأكد جعفر أن الحسين كان يقراً الكثير ليفهم ويجادل ويناقش، فكان مميزاً، تعلم منه جعفر الكثير وكان مفتاحه للحداثة وآخر إنتاجات الشعر، موضحاً أن الحسين في العام 1978 عاد لدمشق بعد أن كان قد تركها لفترة من الزمن، وفيها نشر أول ديوان له إلى جانب نشره لقصائده في الصحف والمجلات، وقد بدأ يطرح اسمه في المنتديات.. من هنا أغرت دمشق الحسين كثيراً، وفيها تعرَّف على أسماء كبيرة في مجال الشعر (نزيه أبو عفش–محمد عمران–ممدوح عدوان–شوقي بغدادي–علي الجندي) فكانت محطته الأبرز بخياره الشعري والسياسي، وفيها بدأ يتأثر بمحمد الماغوط ونزيه أبوعفش، مواظباً على قراءة الشعر العالمي، وقد بدأ يبني شخصيته، فعمل في مركز الدراسات الفلسطينية ووزارة الثقافة، وعاش قصة حب مع الآنسة “س” التي ذكرها كثيراً في قصائده وقد كان صادقاً في حبه للحد الأقصى كما في كل الأمور، فكان كالطفل في هواجسه العاطفية.. من هنا سبَّبت له نهاية حبه الأخير عطباً عاطفياً كان أحد أسباب رحيله.
كانت دمشق المحطة الأخصب بالنسبة له سياسياً، وقد حسم خياره السياسي اليساري خارج نطاق التنظيمات.. وعلى صعيد الشعر حسم خياره تجاه قصيدة النثر بعد أن خاض معارك طويلة في زواياه التي كان يكتبها في الصحافة، ورفض جعفر ما يردده البعض من أن الحسين اشتهر بسبب مرضه بل لأنه كان يلتقط المعاناة الحقيقية للإنسان السوري وللّحظة التاريخية في العالم، فكان شخصاً كونياً، مشدوداً بحكاية الثقافة من خلال معاناته وإحساسه بالفقر، فالتقط ما هو عادي من حوله وحوَّله إلى حالة مزاجية لحساسيته العالية.. من هنا جاء تأثير ما يكتبه كبيراً عبر قصيدته الخاصة، فرحل وكأنه يعرف تماماً أن مصيره لن يكون بعيداً عن أصدقاء راحلين”.

حياة تراجيدية
عاش رياض الصالح الحسين حياة تراجيدية حين أنجز تجربته الشعرية وهو مهدد بالموت بشكل يوميّ نتيجة مرضه بالقصور الكلوي، ورغم ذلك كتب الحسين كما بيَّن الشاعر صقر عليشي بشكل مؤثر، وشكّل حضوراً كبيراً وأصبح لديه قراء، واليوم وبعد أكثر من ربع قرن ما زال حاضراً، وقد عُرِف كأحد المرسِّخين لقصيدة النثر، وهذا رأي شائع لا يؤيده عليشي لأن دواوينه ضمَّت قصائد موزونة، وبيّن أن كتابة الحسين للقصيدة الموزونة لا تقل شأناً عن كتابته للقصيدة النثرية، وأشار إلى أن الحسين كان لديه حسٌّ عصريّ رغم صغر سنه، وكان يمتلك رؤية وفكراً استلهمهما من تجارب الشعر الحديث العالمي والمحلي، وأوضح عليشي أن كل نتاج الحسين صدر في مرضه وتحت تهديد الموت، وهذا يدل على إيمانه بأهمية الشعر كبديل لموته ليخلد بشكل فني، وأكد أن النقد لم يهمل تجربة الحسين، والساحة الثقافية لم تنسَه، وما زالت مجموعاته تُطبَع حتى الآن.

طفل الشعر السوري
وأطلق د.عاطف البطرس على الحسين لقبَ “طفل الشعر السوري” لما في شعره من براءة وصدق وعفوية، وهو الذي كان في سباق مع الموت، ونوه إلى أن الحسين ليس الأول ولا الأخير من المبدعين العرب والأجانب الذين كتبوا إبداعاتهم تحت وطأة الموت الذي إما أن يعطي خيبة ويأساً وعزوفاً وانطواء، أو حالة النقيض كما سعد الله ونوس وممدوح عدوان وسنية صالح وأمل دنقل الذين كتبوا أجمل إبداعاتهم في أوج الألم الجسدي والنفسي، لذلك لم يستطع البطرس أن يتصور كيف كان يمكن أن ينتج الحسين لو لم يكن مصاباً بالمرض، جازماً أن الحسين أعطى أفضل ما لديه تحت وطأة المرض لأن الكتابة بالنسبة له كانت طريقته لمحاربة الموت وأحد أشكال البحث عن الخلود الذي بدأ من جلجامش وحتى اليوم، والدليل ما تركه لنا ونحن ما زلنا نقرأ له ليبقى حياً بيننا، مبيناً البطرس أن الحسين كان مدهشاً في حياته وشعره، وجريئاً في مواجهة الموت وهو الذي التقاه البطرس مرة واحدة ولكنه قرأ مجموعاته بعمق ووجد فيها فسحة من النشوة والمتعة والبراءة والدهشة والعفوية والصدق دون أن ينظر إلى تجنيس إنتاجه وفيما إذا كان يكتب قصيدة التفعيلة أم النثر وذلك بفضل مهاراته وعفويته وحالة الدهشة التي كان يستثيرها لدى المتلقي بصوره التي كان يبدعها والعلاقات بين مفرداته التي تنتمي -إلى حد ما- إلى مدرسة إنزال الشعر من عليائه وتحريره من أرستقراطيته وجعله في متناول اليد، مع المحافظة على جمالياته.

أتقن القواعد كمحترِف
وعرج الشاعر جمال المصري في مداخلته على مفهوم الشعرية والشعر فالشاعرية برأيه يمكن أن تكون موجودة في الرواية والقصة وبين حبيبين.. الخ، في حين يرتبط الشعر ببنيته، أي بالقصيدة، وكان الحسين أحد مطوِّري بنية القصيدة بطرحه لقصيدة النثر وقصيدة الحكاية ذات الصراع الدرامي بمفاهيم شعرية حديثة جداً.. من هنا اختار المصري قصيدة “عيد للقبلة وأعياد للقتل” ليوضح كيف تعامل الحسين مع نص القصيدة لينتج مفاهيمه الحديثة وليبيّن من خلال الصراع الدرامي والحكائية كيف يكشف العالم والذات من خلال حبيبته الآنسة “س” التي تحدث عنها بصور شعرية مدهشة:
يداها زهرتان حول عنقي
وشعرها يتطاير في الريح كالعصافير الخائفة
وأشار المصري إلى أن الحسين لا يضع صفة إلا لينبئ بتغييرها، وهذا إن دلَّ فإنه يدل على امتلاكه لذات شعرية محنَّكة وقد أراد الحداثة وأراد أن يكون الشاعر الحسين ليغير في خريطة الشعر العربي ما يريده ويرسم الصور التي لا يطلقها إلا هو:
كان اسمها “س”
ضفيرتان من أوراق البرتقال
تحب الرمل والقبلة وتحبني أيضاً
فالحسين الذي كان يعاني من إشكالية في السمع والنطق كان يمتلك عمقاً معرفياً واسعاً، كما كان متمكناً –كشاعر- من أدواته، وكان كما قال بيكاسو “عليك أن تتقن القواعد كمحترف وتكسرها كفنان” والحسين أتقن القواعد كمحترِف وكسرها كفنان، وبكلمات قليلة موجزة استطاع أن يعطي أبعاداً فكرية متعددة لما كتبه.
أمينة عباس