ثقافة

مالرو.. الحقيقة في مواجهة الأساطير

يعتبر الأديب الفرنسي أندريه مالرو واحدا من أبرز الوجوه الأدبية الفرنسية في القرن العشرين من خلال إثرائه هذه الثقافة بالكثير من المؤلفات والدراسات. ولد في باريس في الثالث من تشرين الثاني عام 1901 وبعد انفصال والديه عاش طفولة مضطربة, وقد دفعته أجواء الجفوة إلى الانكباب على قراءة الأدب بديلا عن دفء العائلة, وعندما رفضت ثانوية كوندرسيه بباريس قبوله اضطر للانقطاع عن الدراسة, وعمل بائعا متجولا للكتب سنة 1918, وهذه المهنة سمحت له بالتعرف على الناشر رينيه دويون صاحب مجلة “المعرفة” وبعد جلسة استماع تحمس دويون لملكات مالرو النثرية الملفتة, فنشر أولى محاولاته “دراسة عن أصول الشعر التكعيبي” في عدد مجلة شباط 1920, واتبعها بنشر مقالات أخرى لمارلو الذي أصبح بهذه الطريقة ناقدا, ومن هذه المقالات “إضاءات جميلة” و”قراءة في ثلاثة من أعمال لوران تايلهاد” و”نقد لكتاب الحقل المغناطيسي لفيليب سوبولت” و”زنجية للقلب المقدس لأندريه سالرون”. وفي عام 1921 ظهر كتاب أندريه مالرو الأول “أقمار على الورق” وأتبعه بجزأين صغيرين من “كتابات للأصنام”. ولكي يكتب مالرو كتبه الحقيقية, لم يلزمه أن ينتظر نضج موهبته, والثمار المتأخرة لانزوائه في الأدب, بل اقتضى له أن ينتظر تجارب حياته الحقيقية, ففي عام 1921 ظهر كتابه الأول “أقمار من الورق” و”مملكة الغرائب” فهذان العملان ليسا عملين يافعين لكن اليافع اللامع الموهبة التي يمهرها بتوقيعه، ويهديهما إلى ماكس جاكوب كما نشر دراسة عام 1922 عن “دير تيفانس”  للمفكر الكونت دي جوبينو وأخرى عن “الفن الشعري عند ماكس جاكوب”. وإذا كتب “تجربة الغرب” فذلك لأنه أدرك وعانى في مكان الأحداث ذاتها, نزاع الهوى الغربي المحتوم, وصنوف الشرق الكوني, ولأنه رأى هذه الثقافة الغربية التي يعاني منها, ولكن ليس بوسعه الانفصال عنها, رآها تضاء يوما من أيام نهاية العالم, وإذا كتب “الفاتحون” و”الوضع البشري” فلأنه اشترك في الحركات الثورية التي حاولت إعطاء شكل جديد لآسيا. والتقى كما كتب ذلك بعد عشرين عاما, في مكان الأحداث, وفي نيران النضال بـ “طراز من الأبطال”, يتحد فيهم مؤهل العمل, والثقافة, وصفاء البصيرة. وكذلك كتب “أسهل الطرق” لأنه ذهب هو ذاته, يبحث عن المعابد المغمورة في الأدغال. وإذا كتب  رواية “الأمل” عام 1937 من القرن الماضي, فذلك لأن صور حرب اسبانيا, ووحشيتها, واحتدامها, كانت ما زالت  تعيش في مخيلته مثل جرح لم يندمل كما ينبغي, بل إنه استمد جزءا كبيرا من مادة هذه الرواية من انخراطه الشخصي في الحركة التي قادها الجمهوريون الأسبان وأصدقاؤهم على الجنرال فرانكو، والتي قضى هذا الأخير على أحلامها ومطامحها, وفي هذا الكتاب يُمجّد الأخوة والنضال ويتساءل حول معنى العمل ويرفع من شأن الفقراء الذين يحملون البنادق. وأيضاً رواية “قدر الإنسان”, وهي بحق إحدى روايات القرن العشرين التي تبدو فيها جراح الإنسان كأنها إعادة تأسيس للهوميروسية في القرن العشرين, وربما في القرون التالية إن صح التأويل.
لقد كان مالرو الضمير في حلقة ضيقة من الرجال ورمى بكل شيء في قدر العالم: طاقته, ثقافته ,شكوكه, يقينه, ولأن عملته الصعبة: الثقافة والشجاعة, انضم إلى المقاومة ضد الفاشية في فرنسا، كما لو أنه بُعث من جديد كمناضل, وكان الحدث الأبرز والأهم في تلك الحقبة الجنرال ديغول، وسرت شائعات بأن الرجلين التقيا في ساحة المعركة. لقد ألهبت كتبه صواعق أخرى غير نيرانها, فقد كتب باحثاً عن الليل- ليل الأزمنة، وليل الحضارات الزائلة, وليل الشعوب وليل الإنسان وإرثه – لقد عاش باحثاً عن أجوبة على وساوسه. ولم يتوقف مالرو عند تصدير إبداعه الأدبي إلى العالم بل إنه نجح أيضاً إلى حد كبير في اتخاذ قرارات ومبادرات سياسية في مجال العمل الثقافي كانت ولاتزال بحق رائدة في العالم كله, فما إن تم تعيينه عام 1959 وزيراً للثقافة في فرنسا حتى وضع إستراتيجية متعددة الأطراف لإقامة دُور للثقافة في القرى والأرياف الفرنسية, وحرص حرصاً شديداً عبر هذه الإستراتيجية على أن يكون المستفيدون من النتاج الثقافي والعمل الإبداعي من العامة والخاصة. وفي الثالث والعشرين من تشرين الثاني عام 1976 غيّب الموت مالرو, وأقامت فرنسا كلها حفلاً تأبينياً عند الساحة المقابلة لمتحف اللوفر في اليوم التالي.
مالرو الكاتب الوجداني, حاول عبر الكتابة والالتزام أن يعيد بناء الإنسانية وسط عالم يتهدده التقدم التكنولوجي والإيديولوجيات التي حادت عن منابعها. لقد ترك وراءه أعمالا عميقة وسيرة شخصية غنية تعكس تقلب مصائر البشر المعاصرين, وتُؤرخ بمعنى من المعاني لكل أحداث القرن العشرين الجسيمة والحاسمة. إنه من الكتاب النادرين الذين جعلوا من الرواية حياتهم ومن حياتهم رواية.
إبراهيم أحمد