ثقافة

الشيطان الملون والناس

تواريخ سوف يحملها الزمان في قادم أيامه، لتكون جزءا من حركته الثابتة في الشكل المتغيرة في الأداء، وتواريخ حملها فصارت جزءاً من حركته وطغت على امتداده – أي الزمان- مذ تحولت تلك التواريخ لتصبح من الوجدان الآدمي البشري عموما، أو فضاء نابضا في الذاكرة الجمعية العالمية، تواريخ لحروب واكتشاف لغات، تواريخ لحيوات وأخرى للموت، غير مرورها العالم إلى الأبد، ففي عام 1929 بدأ أول بث تلفزيوني للجمهور في نيويورك، وذلك مع بدايات الكساد الكبير الّذي شل الاقتصاد الأمريكي خلال ثلاثينيات القرن الماضي.

لم تتأخر العدوى التي اجتاحت العالم في هذا الجهاز العجيب الغريب، وعربياً يعتبر التلفزيون العراقي هو التلفزيون الأول والرائد الذي اخترقت موجاته الأثير العربي في بغداد بعد أن قامت الحكومة الملكية عام 1956 بافتتاح بث التلفزيون العراقي، لحقه تلفزيون الجزائر في ذات العام بعد أن دشنه الاحتلال الفرنسي ليُرفه عن المستوطنين الأوروبيين أو الأقدام السود الذين بدأت نار الثورة الجزائرية تصليهم، ثم جاء تلفزيون لبنان الّذي انطلق بثه عام 1959 ليلحقه بعدها بعام تلفزيون الجمهورية العربية المتحدة في القاهرة ودمشق، وهكذا حتى صار لكل بلد في العالم تلفاز خاص به، مثله مثل علم البلاد وجيشها، حتى أنه صار ثالوثا مقدسا في كل دولة “علم-جيش-تلفزيون”.

لم تمر سوى سنوات قليلة حتى انتشر البث التلفزيوني كالعدوى في جميع دول العالم، لتنافس موجاته حتى النيتروجين في الجو، وأصبح جهاز التلفاز أكثر أفراد العائلة مهابةً، يتحدث فلا يقاطعه أحد، فالجميع مبهور بأنه يرى نفسه بشكل ما، سواء بطريقة ذاك الممثل الوسيم الذي يقابل فتيات الأحلام التلفزيونيات أو غيرهن، حيث كان يعتبر التلفزيون في واحدة من الفترات التي تلت ظهوره وعند بعض المرجعيات الدينية ذات الأنتربولوجية المعروفة بتطرفها، اعتبر على أنه شيطان ملون! الجهاز الذي غير العالم، ما هو إلا شيطان ملون حسب تلك العقلية، إلا أن الأمر لم يقف هنا، بعد أن رأينا تطوراً هائلاً بالنسبة لوسائل البث والإرسال التلفزيوني، ورأينا الطفرة الكبيرة مع نهاية السبعينيات بعد أن ضاق الغلاف الجوي للكرة الأرضية بموجات التلفاز فخرجت إلى الفضاء عبر الأقمار الصناعية، الّتي باتت السلاح الّذي يحتل به أصحاب القنوات التلفزيونية من حكوماتٍ وجهاتٍ وأفرادٍ، عقول المشاهدين حول العالم، عبر جيش من القنوات الفضائية، ليصبح التلفاز بعدها هو الطوطم أو الإله أو الأعور الدجال الذي تضعه كل أسرة في صدارة البيت، ليجلس أفرادها حوله يأخذون منه التعاليم والطقوس، وليُصبح الإنسان هو المُستقبِل، وبشكل أدق هو جهاز الاستقبال الحقيقي لا ذلك الجهاز المرتبط بالصحن أو الطبق الجائع فوق سطح البناء، والذي إذا نظرتم إلى أسطح أبنية المدينة ستجدون منه آلافا تولّي وجهها شطر كعبة القمر الصناعي في صلاة قائمة ودائمة.

الإحصائيات التي تجري بشكل دوري حول الشأن المتعلق بعلاقة الناس والتلفزيون، أظهرت أن أغلب الناس يتلقون أكثر معلوماتهم عبر التلفاز، وتظهر أيضاً أن الغالبية الساحقة منهم تثق في صدقية هذه المعلومات، كما أن الإعلانات المتلفزة هي الأكثر تأثيراً على ذوق المستهلك، وربما كانت هذه الأمور مؤثرة وذلك لأن مشاهدة التلفاز –على عكس القراءة- تمنع المتلقي من التخيل والتحليل والتفكير المنطقي، حيث تستأثر بحاستَي البصر والسمع لديه، وتكون المشاهِد سريعة ومتواصلة بحيث لا تعطيه وقتاً لتحليل أي مما يشاهده، فتدخل المعطيات إلى ذاكرته مباشرة، دون تحليل أو تمحيص فيتقبلها وعيه– ولا وعيه- كحقائق.

وفي الوقت الذي كنا نصف التلفاز فيه بكونه صندوقاً يحوي العالم كله ويرينا إياه، لم ننتبه إلى أن كلمة “الشاشة” تعني الساتر أو الغطاء، فإذا دقّقتم وأنتم تشاهدون ما يعرض على شاشة التلفاز ستجدون أنها تخفي أكثر بكثير مما تُظهر، وأنها تتقصد أن تُريكم مشهدا معيناً تستقطب من خلاله فكركم وتسلبه منكم، على طريقة شعار إحدى القنوات “أنتم ترون ما نراه”، وبات التلفاز عبر قنواته المختلفة بإمكانه خلق رأي عام يؤثّر على الرأي العام الموجود أساساً، فصار التلفاز إلهاً ديكتاتوراً أو أخاً أكبر– حسب وصف جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984-يمكنه تحويل العدو إلى صديق والصديق إلى عدو من خلال نشرة أخبار واحدة، بعد أن يمسح العداوة أو الصداقة “السابقة” من عقول المُشاهدين بطريقة “أورويلية” وبات يمكنه تجميع المجتمع كما بات يمكنه تفريقه أيضا!.

يوما بعد يوم وعام بعد عام، أثبت التلفاز أنه الأقوى والأكثر سطوة والأذكى في هذا العصر إلى درجة أنه بات يتحكم فيمن يظنون أنهم يتحكمون به من حكومات وجهات وأفراد،وعلى سيرة التحكم يمكن أيضاً متابعة سلوك الأفراد من خلال متابعة كيفية مشاهدتهم للتلفاز، فقد أظهرت بعض الإحصائيات أن أغلب الرجال يحبون الإمساك بجهاز التحكم عن بعد، وتقليب القنوات دون أن يثبتوا على واحدة منها وهذا يعكس عدم ثبات معظم الرجال وتذبذبهم، بعكس معظم النساء اللائي يثبتن على قناة واحدة يشاهدن كل ما تعرضه من إعلانات أيضا، وكأن مشاهدة الفيلم أو المسلسل دون الإعلانات المرافقة له تعتبر بالنسبة لهن سرقة! وهذا ما فطنت إليه شركات المنظّفات في أمريكا فقامت برعاية مسلسلات اجتماعية طويلة لربات المنازل تعرض إعلانات منتجاتها خلالها فيما بات يعرف باسم “مسلسلات الصابون”.

نعم إنه التلفاز الذي يبدو أننا لم ندرك خطورته حتى اللحظة، بدليل أننا ما زلنا نتعاطى معه وفق عقلية “جود بالموجود” وليس بالتخطيط المدروس والعلمي والمتواصل مع محيطه ومحيط محيطه، و حتى سابع أرض كما يقال.

تمّام بركات