ثقافة

الحلال والحرام بين الواقع والنّصّ

“مقدّسات ومحرمات وحروب”  كتاب لـ “مارفن هاريس” وترجمة رشيقة  للشّاعر والكاتب “أحمد م أحمد”  يقول: “يدّعي عصرنا أنّه ضحيّة الجرعة الزّائدة من العقل” ثمّ يمضي في تسليطه الضّوء على أنماطٍ ثقافيّة تبدو لوهلة غير عقلانيّة وغير قابلة للتفسير. بعضها محيّر يظهر عند الشعوب الأميّة أو البدائيّة، خذ مثلاً زعماء الهنود الحمر الأمريكيين الذين يحرقون ممتلكاتهم كي يثبتوا كم هم أغنياء!. وعند آخرين ثمّة ما يمكن القيام به تجاه المخلّصين والساحرات وهم جزء من تيار حضارتنا الخاصّة. وقد اختار الكاتب لبلورة وجهة نظره حالات شاذّة وخلافيّة تبدو وكأنّها ألغازٌ عصيّة على الحلّ. ولكن هل حقّاً عصرنا هو عصر سيطرة العقل؟ أم عصر تجاور الغيبيّات مع  اكتشافات العلم، فلا غالب ولا مغلوب، أم أنّ السّيطرة للغيبيّات والذهنيّة النقليّة هي الأعمّ؟ شخصيّاً أعتقد، بأنّ معطيات العصر الحديث المدهشة والعالية التطوّر والطّفرات التقنية، وثورة المعلومات التي نعيشها ونلمسها ونستحمّ بأمطارها كلّ لحظة تتهاطل علينا من كلّ الجهات، لم تنجح بقفزتها الكبيرة هذه بإحداث تغيير حقيقي في أنماط السلوك البشري ولم يتحقّق مفهوم العدالة الاجتماعيّة، ما رأيناه هو توسيع الفجوة المعرفيّة والاقتصاديّة على مستوى العالم، بين سكان الجنوب وسكان الشمال، وبلدان العالم الأول والعالم الثالث، أيّ البلدان النامية التي ننتمي إليها. فالعلم ومعطياته المستثمرة من قبل القلّة المحتكرة تسير بجهة، وطريقة تفكير الكتلة البشرية العظمى التي تعيش فقراً مدقعاً على كلّ الصّعد، مازالت تسير في جهة أخرى. لقد كذبَ المبشّرون على اختلاف أنواع الثقافات بتحقيق طموحات الكائن البشري الروحيّة والمادّيّة. فعقيدة “الأحمال” الوهميّة ـ  وهي عقيدة تستثمر الموروث من المعتقدات الغيبية لدى الشّعوب، وتوظّفه في خدمة أهدافها الاستغلاليّة ـ  أُعيد إنتاجها بما يتناسب وضرورات تجديد شباب القوى المستغلّة التي تحتكر الثروات بين يديها في كلّ المراحل ـ على أمل أنّ ثمّة من سيأتي حاملاً بشائر الإنقاذ وينتشل الفئات الصّابرة المتضرّرة من واقع البؤس الذي تعيشه، فهناك شعوب كثيرة أخرى مازالت تنتظر قوارب كبيرة ستأتي من عالم الضباب محمّلة بكلّ أنواع الآمال الخلاصيّة والغذاء، لتقيم العدل الأرضي وتقضي على المحتكرين والمستغلّين بكافّة أشكالهم. ثمّ مع التطوّر التّقني غدا الأمل بأن تأتي أرواح الأجداد المنقذين، بسفن إنزال وناقلات ومقاتلات قاذفة وعلى الأرجح ستكون “أمريكيّة” لتمنح المؤمنين الكثير من الخيرات، تماماً كما فعل ويفعل الأمريكيّون ـ بكلّ مكانٍ يغزونه،  تاركين سكان الأرض الأصليّين يغرقون بفقرهم كعمال أجراء، بعد تجريدهم من أراضيهم واستنزاف ثرواتهم ، ليصبح الغازي شديد الغنى وصاحب الأرض أشد فقراً. وهذا يساهم في تكريس العقليّة الاستلابيّة لدى الشعوب، لتبقى مخدّرة وغائبة عن قضاياها المصيريّة وتعيش على الأعطيات وحسب، دون أن تُجهِدَ نفسها  بالتفكير بالأهداف الكامنة وراء هذا السّخاء الشّكلي من قبل الآخر المهيمن، بينما ثّرواتها تُنهب بشكل مدروس ومنظم. وللمفارقة نرى، أنّ تقدم مجتمع ما بالمعنى التّقني لا يعني بالضّرورة تطوّر ذهنيّة التفكير الاجتماعي لديه. فصيرورة تطّوّر السّلوك البشري الاجتماعي والثقافي لها ديناميكيّتها الخاصّة، المرهونة  بقوانين التّطوّر التاريخي والأنثروبولوجيّ، أيّ أنّنا نرى الخرافة والمعتقدات الغيبيّة في المجتمعات المتطوّرة تسير جنباً إلى جنب مع أحدث الاختراعات. ثمّة مجتمعات متقدّمة غزت الفضاء ومازالت شعوبها تعيش ضمن قواقعَ ميتافيزيقية ومناخات يغلب عليها الخرافة والسّحر.

إنّ النّظريات الخلاصيّة التي رافقت التّصوّرات الغيبيّة لدى الكائن لم تختفِ بأي مرحلة من المراحل، بل نراها تتغذّى على معطيات العلم وتتأقلم معه بسرعة، تحت لبوسات تبدو علميّة وما هي بذلك، فمثلاً كان الرومان قلقين من تهديد  “يسوع” لإمبراطوريتهم المترامية، لا من منطلق النّزعة الخلاصيّة التي غدت نظريّة في الافتداء والخلاص البشري على مرّ العصور التالية. بل لأنّ ظهوره قد هدّد قوانينهم وخلخل قواعد وجودهم، إذ هبّت جماهير الأرياف، ثائرة من كلّ الجهات لمناصرته بدخول الهيكل. وظهرت نظريات في القرن العشرين كالشيوعية مثلاً  ورموزها المخلّصة التي بشّرت بمجتمع مشاعي يخلّص البشرية من الظلم والاستغلال، شبيهة بما دعا إليه المسيح. فكما وعد المنقذ والمخلّص الدّيني بنشر العدل والمساواة بين الناس جميعاً، كذلك وعد المخلّص العلماني بفعل ذلك على المستوى الكوني. وبقيت الجماهير المهمّشة والمفقّرة تعيش وتقتات على أحلامها وآمالها بالخلاص، وكما أنكر سمعان بطرس “اليسوع” ثلاث مرات قبل أن يمضي الليل وتعاون “قيافا” ذو المرتبة الدّينية العليا المشرفة على الهيكل، مع يهوذا وغيره في تسليم المسيح لأنّهم كانوا يسيرون بهدي نمط وعي حياة أسلافهم، وقد فهموا أنّ المخلص المنتظر كان يجب ألّا يقهر فهو صانع المعجزات. كذلك هي الشعوب الحديثة وهي ترتدّ عن رموزها العلمانيّة التي وعدتها بالخير العميم، لتلجأ إلى غيبيّاتها من جديد وتجترّ أحلامها الوردية عبر وعي نكوصيٍّ مخدّر يريحها من اكتشاف أسباب بؤسها الحقيقي. ولعلّ منطق الحلال والحرام حسب ثقافة الشعوب يندرج ضمن هذا السّياق، وإلّا ما معنى أن يموت الهندوسي وهو يتضوّر جوعاً بينما مواشيه من أبقار وأغنام وماعز تسرح حوله بنعيم؟! .فالبقرة عند الهندوسي هي بمثابة أمّ الحياة، يحرّم ذبحها، والخنزير محرّم في الإسلام  وعند الصّيني يؤكل لحم الكلب ويحتقر لحم البقر، ومجتمعاتنا تحبّ حليب البقر وترفض لحم الكلاب والبعض يستطيب النمل والجراد الخ.

ويؤكد “جيمس فريزر” مؤلّف كتاب “الغصن الذّهبي” بأنّ الحيوانات الموسومة بـ “القذارة” عند البعض كانت في الأصل طوطمات مقدّسة في الأصل. يقول البعض أنّ تحريم المجتمع الإسلامي في الجزيرة العربيّة للحم الخنزير كان لتفريقه عن الشعوب المحيطة به التي كانت تأكله حسب معتقداتها بلا تحريم، فحتى الآن في ماليزيا الإسلامية يؤكل لحمه. وثمّة من يقول أن تحريمه كان بسبب قذارته والأمراض التي يسبّبها، مع أنّه يأكل لحم البقر والدّجاج الذي يسبّب الكثير من الأمراض، فالدّجاج يعيش في حظيرته مع أوساخه ويأكل الفضلات ويقتات من المذابل ومع ذلك تُصنع منه الولائم الفاخرة وكذلك البقر في حظائره يبدو ملوّثاً بفضلاته ولحومه تسبب الإصابة بأنواع من الديدان كالشريطيّة مثلاً، كما أنّ  حليبه قد يسبّب الحمى المالطيّة أيضاً، ومع ذلك فهو محلّل. ولعلّ معرفتنا بالسّبب العلمي لطبيعة جسد الخنزير وفيزيولوجيّته  قد تخففّ لدينا الشعور بـ “قذارته”  فجسده يشكو من عدم قدرته على التعرّق لذلك يلجأ لترطيب جلده بالطّين الطري والمرطّبات وإذا لم يجد فبفضلاته وبوله، حيث أنّه تحت درجة حرارة ـ 84 ـ فهرنهايت التي توفّر لجسده شروطاً طبيعيّة، يخلف فضلاته بعيداً عن نومه، بينما حين تكون الحرارة في الحظيرة فوق ـ 84 ـ فهرنهايت فإنّه يبدأ بالتبرّز من دون تمييز  في أرجاء الحظيرة كلّها ليصبح أقذر، وهذا بدوره يثير لدينا سؤالاً كبيراً هو، هل كان جهل المشرّع الدّيني للحقائق العلميّة وراء نصوصه التّحريميّة، وبالتالي وراء إلزام الآخرين بإتباعها؟!.

أوس أحمد أسعد