ثقافة

حول الترقيم وشجونه!

ليس الترقيم في اللغة ترفاً، أو أمراً نافلاً، يمكن تركه أو مجانبته، من دون إثم أو عتب أو ندامة؛ بل هو أمر مهمّ للتعبير في التدوين، والفهم في القراءة؛ لتيسيره التعامل مع المفردات والجمل والصياغات، واستيعابها بلا غموض، أو إشكال في الربط والإرجاع.
وتقول المراجع، إنّ “شيخ العروبة”، الأستاذ أحمد زكي باشا النجّار (1934-1867م)، هو من أدخل الترقيم إلى اللغة العربيّة، في بدايات القرن العشرين؛ بناء على تكليف من وزير المعارف المصريّة أحمد حشمت، وقد جمع نتيجة بحثه في اللغات الأخرى، (وأهمّها الغربيّة)، في رسالة، أسماها “الترقيم وعلاماته في اللغة العربيّة”، ونشرها العام (1911م). عمل أحمد زكي في الكتابة والنشر والترجمة، إلى جانب عمله في الجامعة المصريّة، وقام باختصار عدد أحرف اللغة العربيّة في الطباعة، وهو أوّل من استعمل مصطلح تحقيق على غلاف الكتاب العربي. ومن علامات الترقيم التي وضعها أحمد زكي باشا: الفاصلة، الفاصلة المنقوطة، علامتا الاستفهام والتعجب، النقطتان، النقطة، الشرطة، القوسان.
وهناك علامات أخرى؛ إضافة إلى ما استجدّ من الرموز والألوان؛ نتيجة دخول التقنيّات الحديثة عالم الكتابة والتواصل؛ (استعملت الألوان في الطبعات الحديثة من القرآن الكريم؛ لتمييز أحكام التجويد).
وتُلاحظ في كتابة اليوم فوضى عارمة في استعمال علامات الترقيم؛ فتغيب جزئيّاً أو كلّيّاً عن النصّ، أو يغيب بعضها بنسب متفاوتة، أو تستعمل بلا دقّة أو معيار. وبعض ذلك ناجم عن عدم الاهتمام، وبعضه عن عدم معرفة بخصائصها، أو نتيجة عجز أو قصور، أو سوء تقدير لأهمّيّتها، وجدواها؛ مع أنّ هناك من تعمّد إلغاءها تماماً في كتابته، أو بعض نصوصه الأدبيّة.
وليس الترقيم معقّداً، ولا مقاربته مستعصية، لمن يهتمّ، سوى في قليل منها؛ ربّما تكون الفاصلة المنقوطة أكثرها إشكاليّة، وأقلّها استعمالاً، حتّى لدى الاختصاصيّين في اللغة.
وقد تجد أسطراً بلا أيّة علامة؛ كما يمكن أن تجد فاصلة هنا، ونقطة هناك، بلا معايير أو مناسَبة، وقد تندري نقاط عديدة بين جملة وأخرى، وبين كلمة وأخرى بلا حساب؛ ولا سيّما في الكتابة الأدبيّة، عند المبتدئين، بِعَدِّ أنّ ترك النقاط، يعبّر عن كلام إضافيّ متروك لتكهّن القارئ وفطنته، أو لعدم إمكانيّة إحصائه، أو للاختصار وعدم الإطالة. لكنّ لهذا أصولاً أيضاً؛ فالنقاط الثلاث، لا أكثر ولا أقلّ- كما تلحّ قواعد- هي التي تشير إلى كلام آخر، يمكن أن يضاف، وآثرَ الكاتب حذفه؛ مع ذلك، ففي تقديري الشخصيّ، يمكن لنقطتين أفقيّتين، أن تعبّرا عن وقوف مقدّر؛ للتأمّل، والترقّب، والتكهّن، والتفكّر، وإن كانت القواعد، لا تذكر هذا؛ فيما اطّلعت؛ وهما مريحتان، ومساعدتان، وممكنتان، وتقعان، في المسافة المجازيّة الشعوريّة، بين النقطة الواحدة الفاصلة بين فكرة وأخرى، أو بين فقرة وأخرى، والنقاط الثلاث التي تفيد بكلام آخر. وهذا اجتهاد شخصيّ- حسب علميّ- أميل إلى استعماله باقتصاد أيضاً؛ كيلا يفقد ميزته.
وهناك من يشكو كثرة علامات الترقيم، التي قد تشوّه النصّ، وتقيّد القراءة، وتحول دون الانسيابيّة، والتفاعل التلقائيّ مع ما هو مكتوب، والوقفات التي يراها القارئ منطقيّة؛ كما يمكن التساؤل: ألا يختلف الترقيم بين نصّ أدبيّ، ونصّ اقتصاديّ مثلاً؟! ألا نجد، في كثير من القرارات الإداريّة، والتقارير، والمرافعات، ما هو غامض أو ركيك، أو يحتاج إلى تفسير؛ لقلّة علامات الترقيم، أو لانعدامها، أو لاستعمالها بما لا يناسب؟!
وحين تريد توثيقها، أو تدقيقها، تقع في مواجهة تساؤلات مربكة: كيف ستضع علامات الترقيم؟! ألن يتغيّر المفهوم، ويتعثّر المعنى، أو يوجّه حسب قراءتك وترقيمك، بما قد لا يطابق المعنى المقصود؟! وهل يكون من الأنسب أن تتركها كما هي؛ فتظهر نصّاً ناشزاً، عمّا قمت بتدوينه وترقيمه؟! مع أنّ هناك من يرى إمكانيّة تركه للسياق العام، الذي يحدّد مغزاه وفحواه؛ لكنّه قصور وتقصير لدى صائغي القرارات، الذين اعتادوا على أسلوب وشكل وتعبير، ليس من السهل تغييرها، في واقع عدم وجود مدقّقين لغويّين في غالبيّة المؤسّسات والدوائر؛ ويكون التدقيق، إن وجد، للكلمات نحواً وإملاء، وليس ترقيماً؛ مع أنّ هذا يقع في صلب أيّة عمليّة تحديث وتطوير، في الإدارة وسواها.
أمّا في الكتابة الأدبيّة؛ فقد يكون خلوّ النصّ من أيّ ترقيم، مقصوداً؛ ليترك للقارئ أمر تناول الجمل والصياغات؛ كما يراه ويحسّه؛ بعيداً عن تلقين الكاتب؛ وهذا يختلف في النصّ النثريّ، عنه في النصّ التفعيليّ، ومختَلَف على قبوله والاستمتاع به، إذا ما أضيف إلى حداثة المفردة والصياغة والتركيب، وجدّة الفكرة والصورة والاستعمال.

غسّان كامل ونّوس