ثقافة

دوستويفسكي.. مصّور فوضى المشاعر

واحد من اكبر الكتاب الروس, ومن أفضل الكتاب العالميين, أعماله كان لها اثر عميق ودائم على أدب القرن العشرين. وقد ترجمت إلى العديد من اللغات وأصبحت أفكارها وشخصياتها جزءاً من تراث البشرية الروحي. إن أثمن ما في تراثه هو رواياته. وقد اشتهرت في العالم بصفة خاصة روايتا (الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف) اللتان عبّرتا  بأكمل صورة عن فلسفة الكاتب. بيد أن رواياته الأخرى (مذلون ومهانون والأبله والشياطين والمراهق) على جانب كبير من الأهمية والطرافة.

كتب دوستويفسكي في إحدى رسائله بأن هدفه وأمله في عمله الأدبي: “أن أبدي رأيي في كل شيء و حسب الإمكانية قبل أن أموت” إبداء الرأي في كل شيء هو الهدف والأمل، أي الإفصاح عن أفكاره ومشاعره وعلاقاته بالناس. ومن خصائص دوستويفسكي في إبداعاته الأدبية انه يعرف مسبقا مغزى الحياة. عندما تذكر تلك الأعوام التي قضاها في السجن كتب في “مذكرات من البيت الميت” يقول:”انتظرت لحظة الحرية واستدعيتها على عجل لأنني أريد أن أعدّ نفسي من جديد لنضال جديد”. فالحرية عنده ليست من أجل الراحة والتعويض عن تلك الآلام والتجربة المريرة والعيش بسلام، بل من أجل العمل والإبداع ومن أجل تجسيد تلك الأفكار والانطباعات المتراكمة على أرض الواقع.

كان دوستويفسكي بطبيعته مواطناً نشيطاً وابن عصره، فقد نما تحت تأثير الأفكار الديمقراطية السائدة في الأربعينيات من القرن التاسع عشر, وكان من أشهر أعلامها آنذاك الناقد الروسي بيلينسكي والكاتب الروسي الشهير غوغول، وشارك في حلقات البتروشيفية المناهضة للقيصر, ووقف معهم في ساحة الإعدام منتظراً الموت. أمضى أربعة أعوام في السجن وخمسة أعوام في الجندية وعاش حرب القرم والأوضاع الثورية أعوام 1859 – 1861 ومرّ بأوقات عصيبة ما بين عنف رجعي ومد ثوري شهدته روسيا في السبعينيات. ورأى بأم عينه التباين الاجتماعي الحاد في هذا العالم: “بكل قاطنيه القوي والضعيف والساكنين في الخيام الفقيرة وفي القصور المزركشة” وعرف القوة الشريرة الكامنة لسكان مختلف البلاطات وقوة المال والسلطة, واصطدم في المعتقل بحقائق أكثر رعباً وببحر لا قرار له من الآلام والمصائب. ولم يشعر دوستويفسكي بثقل حياة المهانين والمعذبين في الأرض وحسب، بل أيضاً بتلك القوة الروحية لأولئك المستضعفين والبسيطين من الناس الذين يقبعون في الأحياء الفقيرة المظلمة في أطراف العواصم، وخلف جدران (البيت الميت) يتمتعون برجاحة العقل والعطف والإيمان بالله والثقة بقدرات الإنسان.

عاش دوستويفسكي الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته في مقاطعة فوفغورد غرب روسيا, وتعد هذه المرحلة مثمرة في نتاجه الأدبي حين أبدع روايات (الشياطين) عام 1872 و(المراهق) عام 1775 و(الأخوة كارامازوف) عام 1880. وذاع صيته في روسيا كلها وخاصة بعد إلقائه كلمة مشهورة في مراسم افتتاح تمثال الشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين في موسكو. لكن المجد الحقيقي وإكليل الغار نزلا على دوستويفسكي بعد وفاته, واعترف الفيلسوف الألماني المعروف فريدريك نيتشه أن دوستويفسكي كان بالنسبة له سيكولوجياً وحيداً جديراً بالتعلم منه.

في عالم دوستويفسكي الغني يتصارع: الخير مع الشر والحقيقة مع الزيف, ومضمار هذا الصراع هو قلب الإنسان على حد تعبير إحدى شخصيات روايته “الأخوة كارامازوف”. تعلم دوستويفسكي من بوشكين وغوغول ولير منتوف، فهم أهمية التراجيديا اليومية التي يتعرض لها الإنسان من شر وغبن وقهر وإذلال, وكان لهم تأثير كبير على فكر دوستويفسكي ككاتب وإنسان، وكان الأدب الأجنبي محط اهتمامه, فعندما كان عمره تسعة أعوام شاهد مسرحية شيللر ” قطاع الطرق” وتابع بحماس قراءة شكسبير وسرفانتس وهوفمان وديكنز, وكان معجبا بالروائي الشهير بلزاك وجورج صاند وفيكتور هوغو.

ورأى الناقد الروسي بيلينسكي أن دوستويفسكي أولى اهتماماً بالغاً بمسألة التناقضات كمسألة أخلاقية اجتماعية. لقد تميزت عبقريته بقوة فلسفية عظيمة، ومن الصعب أن نجدها عند كاتب آخر، ولذلك نجد تناقضات كبيرة بين كتابات معاصريه عنه. فقراءة دوستويفسكي كإنسان وكشخصية متفردة أمر صعب للغاية كما هي الحال عند قراءة رواياته. إن إبداعه يحفز الفكر ويهز ضمير الإنسان المعاصر, وقد أثّر على أكبر الفلاسفة وعلماء النفس في العالم.

إبراهيم أحمد