عادل خضور ..عندما يغني الحبق
تسعينيات القرن الماضي، وبينما تراجع الغناء في الساحة المحلية بشكل عام كرمى خاطر الدراما التلفزيونية التي ابتلعته، ظهر صوت قوي ودافق، وفيه حنان أليف يرتدي لبوس القسوة أحيانا كما ينبغي لمغني اللون الشعبي، حينها فاخرت “أم الطيور” قرية من قرى منطقة مصياف- محافظة حماه، ببزوغ نجم مطربها وشاعرها الشاب “عادل خضور” – 1961-، الذي سيقدم للساحة المحلية الفنية الشعبية عمرا كاملا، من الفن الشعبي الراقي والمحترم، حيث الكلمة في بيت العتابا الذي يقوله من رأسه ميزة شاعر المحكية عموما والعتابا والزجل بشكل خاص-، هي حمامة بيضاء، واللحن في أغنية من أغانيه، حكاية من حكايات تلك المنطقة البديعة من سورية، حيث يجتمع السهل مع الجبل، منتجا تلك الروح المنبسطة في تقديرها لهبات الطبيعة، والشامخة كالجبال في احترامها للفن الذي تقدم، وللجمهور العريض من مختلف أنحاء البلاد الذي يحترم هذا الخيار الفني ويقدّره، الجمهور الذي أعلن نجومية هذا الفنان، حسب إحصائيات مبيع “الكاسيتات” –حينها لم يكن زمن القرص الرقمي قد أتى بعد- حيث وصلت أغاني “خضور” إلى البادية الشمالية في أقاصي الحدود السورية وإلى أقصى الحدود الجنوبية –قرية نصيب الحدودية- وحتى الأراضي الأردنية، فأغنية “أبو علي” – لقب الفنان خضور بين أهله ومحبيه- هي بنت بيئتها، ليست بالأغنية البدوية لكن فيها من روحها ومن طبيعتها ما فيها، كما أنها ليست بالأغنية التي تندرج ضمن إطار أغاني الافراح التي نسمعها من مغني هذا اللون الآن بكل استخفاف بقيمته، بل هي نسمة راقية تحط فوق رهافة الحس فتنتج شعورا ممتعا بالأصالة “ويلاه يا أم الزلف- حطي على النار يا جدة- وينك حبيبي وين- يا حبيبي لا تسافر” والكثير من الأغاني التي صارت فيما بعد دارجة على كل لسان، فالبساطة التي تميزها، والثيمة المختارة لتكون موضوع الأغنية، هي موضوع اهتمام عام، كونها تعبر عن لسان حال عام، إن كان في الحب أو الفراق أو الخيانة وغيرها من ضروب أهل الغرام.
توصف طريقة “خضور” الغنائية بكونها من طراز خاص وحقيقي لنموذج الفن والفنان الأصيل، فما يقدمه هذا الفنان لجمهوره العريض من “السميعة” في سورية وحتى لبنان والأردن والعراق، العذب ينزل في نفس سامعه منزلاً طيباً، خصوصا عندما يغني أيضاً أمهات القصائد العربية بألحان بسيطة، والتي تصير على أنامله وهو يعزف على عوده، كأنها امتداد حقيقي لموسيقى القصائد الشعرية التي يغنيها، ما يجعلها تلج بيسر لأذن المستمع الذي يحن إلى الطرب الحقيقي المتكئ على كلام جميل وصادق، لشعراء رحلوا منذ مدة طويلة، إلا أن أشعارهم وقصائدهم حية وطازجة للدرجة التي صارت فيها تلك القصائد عابرة للأزمان.
يقول “خضور” في إحدى أغانيه “وينك حبيبي وين/ عاودلي بدراجك/ وأرحم دموع العين/ هالقلب محتاجك/ عاود حبيبي أنسى/ حاج علي تقسى، هي خطية بالفعل ما اتقصد احراجك”، كلمات بسيطة ومعبرة وبنت بيئتها، والأهم أن “عادل” يغني للعديد من شعراء المحكية الشباب الذين يكتبون له قصائد شعرية خاصة بطبيعته الهادئة وطبيعة غنائه المختلفة عن باقي أنماط اللون الشعبي في سورية.
لم تلتفت الجهات الرسمية المعنية بالفن والفنانين لهذا الظهور المدوي لنجم “عادل خضور” في عالم الفن، رغم أن الشوارع والسيارات والمقاهي كانت تضع أغانيه بشكل يومي، المسافرون يريدون سماعه، والمنتظرون -لما يأتي ولا يصل- أيضا يريدون أن يغني ويؤنس انتظارهم، ومن اللافت فعلا أن من أكثر المحبين للاستماع إلى فن “خضور” هم العساكر، الذين يجدون في أغانيه مواساة لهم في بعدهم عن أهلهم وعن حبيباتهم وحياتهم، ولكن قلة الاهتمام هذه لم تكن لتؤثر على شعبيته في معظم المناطق السورية، حيث غنى في الحسكة والرقة ودير الزور وحلب والساحل السوري والمنطقة الوسطى والجنوبية، وصار الطلب عليه في الحفلات والأعراس شبه يومي، لذا فإن الرجل قال أن فنه للناس وهذا ما يهمه، لا أن “يترقوص” في فيديو كليب مائع، حيث يصبح الصوت الذي لا يصلح لشحن البضائع فما بالنا بالعواطف، يصبح من الأصوات الجميلة في الاستوديوهات وأفعالها المعروفة، وحدث أن استضاف التلفزيون السوري الفنان “خضور” في لقاء حكى فيه الرجل عن شجنه بهذا الفن، ولم يطلب ولو دعما بسيطا لفنه، إلا أن متابعة فنه ودعمه كونه يقدم فن ابن بيئته، فهذا لم يحدث، وفي الوقت الذي تفاخر فيه الشعوب والأمم بفنانيها الشعبيين، معتبرة إياهم إيقونات غنائية، في هذا الوقت يغيب هذا الفن بأهله الحقيقيين عن مسارح العاصمة، كمسرح دار الأوبرا، الذي يستقبل مقلدون لفن العتابا والفن الشعبي، وهم فعلا لا يجيدوه، لأنه صعب ويحتاج لأداء متمكن، كما أنه بحاجة للأصالة الفعلية لا المصطنعة لينجح تقديمه، وهو ببساطة ما ليس متوفرا في تلك الأصوات.
الفنان “عادل خضور” بسلوكه الشخصي الرزين، يتعامل مع فن الغناء برقي واحترام لخصوصية بيئته “ريف حماه” التي ينهل من معينها معظم أغانيه وألحانه ومواويله، تمتاز عموما بالليونة حيناً والحدة حيناً أخر، كطبيعة المنطقة التي تربى فيها وعيه ووجدانه الإنساني والفني، وهاهو وحتى اللحظة التي صار فيها في الستين من عمره، يقدم إرث هذه المنطقة الغنية من سورية بما يليق بها وبفنها وناسها الكرام، أما أهم ما يميز “أبو علي” هو حسه العالي في الغناء، والعناية في اختيار الكلمات، وأغانيه التي في أغلبها تدل على الحزن والأسى والبعد والفراق والسفر والغربة، وأغلب أغانيه هي من ألحانه، كما يتميز بنمط ولون معين في أدائه للعتابا، وقد استطاع الحفاظ على هذا النمط الذي ميزه عن غيره من المطربين الشعبيين، صدر له عدد من الألبومات الغنائية التي أدت لشهرته الواسعة، منها: – له يازمن، ياحبيبي لا تسافر، حبات المطر، ضاع الوفا، يامعدل القامة، إضافة إلى الجلسات الخاصة التي يغني فيها “خضور بين أصدقائه بمرافقة عوده، حتى يكاد من يراه وهو يستمع إليه يرى أن العود امتداد طبيعي ليديه اللتين تحضنانه بحنو فتجود الأوتار بما ينفعل في جوانياته بصدق وعفوية وبساطة.
الجدير بالذكر أن “عادل خضور” هو أستاذ لغة عربية، ما يفسر ميله للشعر العربي الكلاسيكي وحبه لهذا الشعر الذي صارت قصائد كباره مما يجود به خضور في غنائه وهو في هذا، يبقى محافظا على مسؤوليته كفنان بأن يقدم كل ما هو أصيل ويجب أن يكون حاضرا في وعي ووجدان الأجيال القادمة، فهي الاستمرار لروح هذا الفن، وهذه الروح لتنجح كما “خضور” فيجب أن تكون أولا وأخيرا أصيلة، ومعدنها من حبق.
تمّام علي بركات